عشرون عاما في كندا لم تلهمني علمانية واضحة وجريئة بسبب قلة عدد السكان وعظمة المساحة، وبسبب نظام العزلة والعزل الذي ورثوه من التعامل مع الهنود الحمر ومقاطعاتهم الخاصة. البلاد بعيدة وهذا يثير إحساسا مضاعفا بالغربة. لندن –في المقابل- سرة الدنيا وواسطة الأرض تخلط الناس خلطا قويا. مدينة مشّائين والنَّاس بصحة جيدة، وإلا كيف يسألك كاتب يكبرك بعقدين مقيم فيها ما إذا كنت تستطيع المشي لساعتين؟
المدينة أقنعتني بأشياء لم تستطع كندا إقناعي بها بوضوح، بسبب غياب الحياة الثقافية العربية. لندن تساعدك على حسم الأمر. كم هم مخادعون هؤلاء الساسة الذين عاشوا في لندن وعادوا إلى بغداد للمتاجرة بالحسين والعباس والإسلام السياسي. من المؤكد أنهم يكذبون.
إذا كانت لندن قد أقنعت فولتير بالتنوير وعاد إلى باريس حاسما أمره، وعلمت ماركس وأنجلز ونوّرت عقل لينين فكيف يمكن أن يعود منها العراقيون بمظلومية الحسين والثأر التاريخي؟ لا شك أن دوافعهم تجارية.
مصادفة فلسفية جميلة أن يكون أول مكان أزوره في لندن هو المتحف الطبيعي. بناء ضخم فريد من نوعه قائم على فكرة تشارلز داروين "أصل الأنواع" مستحاثات وعظام وهياكل ديناصورات وصور تشرح فكرة داروين ومقتنياته وأشياءه. البناء تحفة فنية ضخمة وأكثر ما هزّني السيدات والعجائز المتخصصات بتعليم الأطفال في المتحف.
طفل إنكليزي واقف أمام هيكل حجري لسلحفاة ضخمة عمرها 30 مليون سنة، وطفلة شقراء منذهلة بقطعة من على سطح القمر جلبتها المركبة أبولو عام 1972. هذه الطفلة ستكبر وتصبح طبيبة متخصصة في لندن، ويأتي آية الله العظمى علي السيستاني ليتعالج عند تلميذة داروين، ثم يعود إلى العراق حيث الأطفال بحاجة إلى التبرك بالأضرحة، والتداوي بلعاب رجال الدين.
في اليوم التالي ذهبت إلى المتحف الوطني البريطاني واستوقفتني المومياء المصرية. رجل مصري محنط مع نعشه الخشبي الفخم قبل أربعة آلاف عام. هذا المصري حين مات طلب تحنيطه قبل الآلاف من السنين حتى تفتح الآلهة نعشه وتدخله الحياة الأبدية، لم يكن يعلم بأنه سينتهي في المتحف البريطاني. وهناك رأيت آثار بابل وآشور وشعرت بضخامة وقسوة الروح العراقية القديمة.
المتاحف والتنوع العمراني والجامعات في لندن تهز عقلك هزا، تشعر كما لو أنك تسير على دماغ ضخم وليس مجرد مدينة. الكثيرون كتبوا في العلمانية والتطور لكن بريطانيا الهادئة قدّمت تشارلز داروين بتواضع شديد، والكثيرون تكلّموا عن المجتمع والاقتصاد والتاريخ فقدّمت بريطانيا آدم سميث، والكثيرون خاضوا في الأدب إلا أن هذه هي بلاد شكسبير واللغة الأكثر انتشارا، والكثيرون عاشوا في عالم أرسطو الآلاف من السنين إلا أن بريطانيا قدمت نيوتن وغيّرت العالم بالثورة الصناعية والعلمية. لندن قادرة على إقناع البشر بالعقلانية والتواضع.
أكثر ما لفت انتباهي في متحف التاريخ القديم هو حضور الخمر في الفنون. تخبرنا ملحمة كلكامش بوجود حانات في العهد السومري، وكذلك النصوص والفنون البابلية والآشورية تكشف عن حقيقة احتفاء هذه الشعوب بالخمر وأنه كان جزءا من حياتها اليومية.
المعلقات العربية الجاهلية فيها تمجيد للخمر، معلقة عمرو بن كلثوم واضحة وكذلك معلقة طرفة بن العبد. الإسلام جاء بقضية الدولة الدينية في مرحلة الرسالة فقط، تحريم الخمر والغناء والرقص والتشدد وهدم الحانات لكن ذلك لم يستمر.
لقد وصلنا إلى تقسيم العراق حسب الطوائف، وهل الخلافات المذهبية تساوي ذرة من تراب الوطن؟ عقول تمزق أوطانها لأجل العقائد والمذاهب في القرن الحادي والعشرين. لو أننا امتلكنا شجاعة المأمون والمعتصم وعبدالملك بن مروان منذ البداية، ووقفنا في وجه رجال الدين لما وصلنا إلى هذه النهاية المأساوية
انتهى تفضيل الناس على أساس الإيمان بظهور معاوية بن أبي سفيان. لم تعد هناك أهمية لكونك مؤمنا أو غير مؤمن في الدولة الأموية. الفتوحات الإسلامية التي يلعنها الشيعة لفشلهم السياسي لا تختلف عن الفتوحات البابلية والفارسية والإغريقية والرومانية وحتى البريطانية الحديثة. فتح مستعمرات وتوسيع الخراج لبناء حضارة.
الأمويون والعباسيون كانوا بناة حضارة ومرح وعمران، ولا علاقة لهم بالكآبة التي يمثلها الإسلام السياسي اليوم. بدليل أن الحانات والفنون والموسيقى عادت إلى الحياة منذ الدولة الأموية. عبدالملك بن مروان كان يدخل عليه شاعر مسيحي كالأخطل مخمورا ويُنشد أمامه أبياتا في وصف الخمر والخليفة يطلق عليه لقب "شاعر بني أمية".
هذا العالم الدنيوي لم يرق لأهل البيت بحسب فهم مراجع الشيعة، فهم أرادوا العودة بالناس إلى الوراء دائما، إلى عصر الإيمان والتقشّف والتشدّد الديني، ولهذا فشلوا سياسيا منذ الإمام الأول وحتى الإمام الحادي عشر. بينما استطاع الأمويون والعباسيون والعثمانيون بناء إمبراطوريات وممالك قوية.
زيارتي إلى لندن منحتني شجاعة علمانية، ودفعا نحو طرح أسئلة جوهرية حول واقع بلادي العراق. الشيخ عبدالملك السعدي يقف في جموع الأنبار ويقول هل تحبون أهل البيت؟ يقولون: نعم، فيقول إذن أنتم شيعة، والشيعة يتبعون سنّة النبي إذن هم سنة "أنتم شيعة وهم سنّة".
والسيستاني -من جهة أخرى- يفتي بألا تقولوا إخواننا السنّة بل قولوا "أنفسنا". هذا الخطاب الرومانسي بين رجال الدين يمثل قطيعة مأساوية لخطابهم مع واقعهم. الذي يسمعهم يشعر وكأن العراق اليوم رمز التعايش والسلام بينما الواقع مرير ودموي وصادم.
لكي تظهر الفكرة يجب أن يعانيها شخص ما، وعادة ما يكون الكاتب. هل الثقافة العربية دينية إجمالا؟ الجواب نعم ثقافة دينية بدليل لا يوجد تنوع ولا فرادة، لا يوجد اختلاف بين مبدع ومبدع، فكل المبدعين يسيرون على هامش صغير تركته الثقافة الدينية الضخمة على مضض.
يقول صديق مثقف "الجيد أن المشكلة في العراق وصلت إلى الذروة، فإما أن يغيروا من تفكيرهم وإما أن ينقرضوا. شعوب كثيرة أبادها التطرف ورفض التعايش والحروب الأهلية والكراهية."
الدولة الدينية والعالم الدنيوي
هناك مشاكل فلسفية في العراق يذهب ضحيتها الآلاف من الناس مثل محبة أهل البيت. السنّة يُقسمون للميليشيات بأنهم يحبون أهل البيت والميليشيات تضحك وتنظر إليهم بريبة. لماذا عليَّ أن أُحب الإمام الرضا أكثر من هارون الرشيد؟ أو الإمام العسكري أكثر من المعتصم؟ هذا غير صحيح وضد مشاعرنا القومية الحقيقية. ليس هذا فقط بل يريدون منك أن تحب الخميني والسيستاني والصدر لأنهم من أهل البيت.
إذا كنت لست من أهل البيت فلماذا تفرض عليَّ أشياء كهذه؟ يقول الفيلسوف الألماني نيتشه "كيف يمكن لي أن أطيق حقيقة أن يكون المسيح إلها، إذا كنت أنا نفسي لست إلها."
بعد وفاة النبي انتقل العرب إلى دولة دينية "دولة الإيمان" حتى جاء معاوية بن أبي سفيان وحوّل العرب إلى مملكة دنيوية مستنيرة. انتهى التأسيس الديني والروحي وبدأ عهد التأسيس الحضاري والبنيان بهذا الرجل. صراع علي بن أبي طالب مع معاوية هو صراع القديم مع الجديد، قضية جدلية معروفة.
أعتقد أن الوقت مناسب لظهور ثقافة علمانية غاضبة تستقطب سنة العراق، وهذا لا يتحقق إلا بقراءة علمانية تنصف رموزهم ولا تهينها… أبناء الزهاوي والرصافي وورثة الأمويين والعباسيين المتمردين على التطرف والتعصب، ورثة نوري السعيد والخمريات صاروا فجأة ورثة التوحيد ومسؤولين عن كل التاريخ الإسلامي والعقائد. أصبحوا هدف الرماة والقاصفات والبارجات، صار الخمينيون أصحاب فكر تنويري ورسالة انفتاح.
جدل بين العقل في صورة معاوية وبين الدين في صورة علي وانتصر العقل في النهاية. بين العمران البيزنطي وتأثيره في معاوية، وبين التقشف وتأثيره في علي. العرب انتقلوا من الجاهلية إلى الإسلام، ثم انتقلوا من الرسالة الدينية إلى الدولة الدنيوية. ماذا كان يريد علي؟ يريد العودة إلى الوراء إلى عهد النبي ولهذا لم يتغلب على خصم فهم التغيرات والواقع الجديد.
لم يستفد سنّة العراق شيئا من التدين بل على العكس التطرف أدى إلى حصارهم سياسيا. صار الجميع يحارب الإرهاب بقصفهم وحرق مدنهم. المدن السنّية العراقية التي طالما انتصرت فيها العلمانية والعلوم، أصبحت داعشية بخدعة دولية.
أعتقد أن الوقت مناسب لظهور ثقافة علمانية غاضبة تستقطب سنّة العراق، وهذا لا يتحقق إلا بقراءة علمانية تنصف رموزهم ولا تهينها. الصحابة موضع تقدير لسبب تاريخي وليس لسبب ديني، لأنهم متمردون. كفروا بدين الآباء والأجداد، وتمردوا على قيم القبيلة لأجل رسالة جديدة. الأمويون والعباسيون تمردوا على دولة الإيمان الدينية وأسسوا إمبراطوريات دنيوية تمجد الحياة والجسد والقوة.
هل كان من الممكن لكتابي الأغاني وألف ليلة وليلة أن يظهرا لو أن الأئمة المعصومين قد حكموا العالم الإسلامي بكآبتهم الدينية بدلا من القادة المستنيرين من بني أمية وبني العباس؟ منذ معاوية وحتى آخر خليفة عثماني كان التاريخ الإسلامي يفصل الدين عن الدولة. مفهوم الإخوان المسلمين وداعش والخميني كله انحراف وخروج وتلوث في العقل.
ماذا يريد الشيعة من زياراتهم المليونية للقبور؟ ما هو المعنى لهذه التظاهرة الظلامية؟ ما معنى ضرب الصدور والرؤوس والظهور وتهيج الأحقاد؟ هذه مظاهر انحطاط عقلي من القرون الوسطى ومن العار الترحيب بها في العصر الحديث. ثم أن أهل البيت لم يتمردوا على القبيلة ولا يملكون شجاعة قتل الأب بالمعنى الفرويدي وكل رسالتهم هي الحنين إلى عهد النبي وتطبيق الدين والتشدد.
وها هو التشيع ينقسم بين جماعة تنتظر المهدي، وبين الخمينية التي تريد دولة دينية وولاية فَقِيه لا يوجد خيار آخر عندهم. فالخمينية أثبتت مدى دمويتها وفشلها، وأنها مصيبة على الشعب الإيراني وحرب مستمرة وأزمات، ونشر للخرافات والكراهية المذهبية، ومنها خرجت حماس وحزب الله وداعش. أما انتظار المهدي فهو أمر مشين بحق العقل البشري. كيف لعاقل أن يؤمن بإنسان اختفى وسيعود بعد الآلاف من السنين. هذا فكر لو سمع به أبوسفيان لبكى من الضحك ولقال "سقى الله أيام الجاهلية".
شيء جيد أن الشيعة هاجموا خرافات السنّة وتطرّفهم، ولكن علينا أن نهاجم خرافاتهم أيضا. ثم نجلس في النهاية كأصدقاء في حانة بغدادية ونضحك من أعماق قلوبنا على هذه الخرافات والأحقاد التي دمرت عقول العراقيين ونهبت ثرواتهم وهدمت حواضرهم.
علينا أن نكون واضحين أكثر في كتاباتنا، ولا نقع ضحية أفكار الإخوان المسلمين والخمينيين، أو نخاف من تحديهم ثقافيا. لقد كان هناك خلفاء وأمراء سجنوا فقهاء عظاما مثل ابن حنبل وأبوحنيفة وابن تيمية وأئمة الشيعة (المعصومين) وسفرائهم وفقهائهم لأنهم أرادوا تحدي السلطان اعتمادا على الفهم المقدس للدين. فلماذا نعتقد بأن الخلافة كانت دولة دينية، إذا كانت تؤمن بأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؟
أين نقف نحن اليوم؟ هل نقف مع الخلفاء الشجعان الذين فصلوا الدين عن السياسة في التاريخ أم نقف مع الفقهاء والأئمة الذين قاموا بتحدي السلطان انطلاقا من فهمهم المقدس للدين؟
خيانة الفكر التنويري
كان هارون الرشيد واقعيا إلى درجة أنه قال لولده المأمون إن الملك عقيم، وإنه لو نازعه فيه لأخذ الذي فيه عيناه؟ ألم يقل عبدالملك بن مروان حين آلت إليه الخلافة إن هذا آخر عهده بكتاب الله؟ وإن السياسة والدين لا يجتمعان؟ أليس هذا فهم دنيوي صريح لطبيعة السلطان بلا مجاملات.
أين نقف نحن اليوم؟ هل نقف مع الخلفاء الشجعان الذين فصلوا الدين عن السياسة في التاريخ أم نقف مع الفقهاء والأئمة الذين قاموا بتحدي السلطان انطلاقا من فهمهم المقدس للدين؟
السؤال هو لماذا سمحنا لشيء منحط لا يمت للتاريخ العربي بصلة مثل داعش بالوقوف على قدميه؟ في الحقيقة المثقف العلماني الشيعي هو السبب، فقد رحب بالسيستاني ومجّد الحسين والأحزاب الدينية الشيعية وغض النظر عن خطاب طائفي وجرائم جماعية كبيرة وصلت إلى ثلاثة ملايين نازح.
الحزب الشيوعي العراقي منذ مظفر النواب والجواهري يصف الحسين بالثائر ويصف علي بالشيوعي وهذا غير صحيح ومجاملات. اليساري فخري كريم يمجد عاشوراء ومشاركة الشيوعيين في مواكب اللطم. نحن كمثقفين سنّة شعرنا بالغدر ولم نشعر بحماسة لمواجهة التطرّف السنّي. لقد كانت هناك خيانة للفكر التنويري ومبادئ الحرية منذ البداية.
لقد وصلنا إلى تقسيم العراق حسب الطوائف، وهل الخلافات المذهبية تساوي ذرة من تراب الوطن؟ عقول تمزّق أوطانها لأجل العقائد والمذاهب في القرن الحادي والعشرين. لو أننا امتلكنا شجاعة المأمون والمعتصم وعبدالملك بن مروان منذ البداية، ووقفنا في وجه رجال الدين لما وصلنا إلى هذه النهاية المأساوية.
إذا كان الحل الوطني يقع خارج الدين وكل العراق اليوم ميليشيات وأحزاب دينية فكيف يمكن تخيّل الخلاص دون انقلاب وظهور دكتاتور مستنير؟ لا يمكن للجدل السياسي والثقافي أن يؤدي إلى حل، بل سيدور حول الزعماء الإسلاميين الفاسدين أمثال المالكي والعبادي والصدر والحكيم. كل واحد يتنصل من المشكلة وكلهم أحزاب دينية أو رجال دين برعاية إيران والحوزة. فمن أين يأتي الحل في بلد متكون من طوائف وأقليات؟ هذه الفاشية الدينية المتبادلة لا طائل من ورائها.
هذه تأملات لمشروع جريء سأشتغل عليه في الأيام القادمة. ألهمتني لندن بوضوحها وشجاعتها التنويرية هذه الرؤى. مرّت على ذاكرتي وأنا أسير وحيدا في الهايدبارك ما ذكر عن الرئيس صدام حسين الذي حطت طائرته في مطار هيثرو في طريق عودته من كوبا حيث أرخى الرئيس ستارة النافذة حتى لا يرى الأرض التي احتلت بلاده. خسارة كبيرة حقا، لو نزل الرئيس صدام حسين عام 1979 إلى لندن وقبل يد الملكة وتجول في شوارعها لتعلم أشياء كثيرة، وربما جنب ذلك العراقيين مصائب كثيرة.
أسعد البصري