الكرد وتبدل الخارطة السياسية في العراق
باتريك كوكبرن/عن صحيفة الاندبندنت
ترجمة/ أنيس الصفار
على مدى اليومين الماضيين خسر الكرد ما يقارب 40 بالمئة من الاراضي التي كانوا يسيطرون عليها حين انسحبوا من المناطق التي بقيت طويلاً موضع خلاف وتنازع بينهم وبين بغداد، ولا يزال مقاتلو البيشمركة الكرد يواصلون الانسحاب من مساحات واسعة في شمال العراق تمتد ما بين سوريا غرباً وايران شرقاً.
بات واضحاً الان ان الحزبين الكرديين الرئيسين، وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، قد اتفقا في اجتماعهما يوم الاحد على الا خيار امامهما غير الانسحاب من كركوك وباقي المناطق المختلف عليها.
فالحزبان يعلمان انهما اضعف من ان يتصديا لقوات الامن العراقية، وليس لهما حلفاء يستنجدون بهم طلباً للمساعدة. القادة الكرد اليوم يلقون باللوم على بعضهم بعضاً لحدوث هذه الانتكاسة التي ستسجل كأعظم كارثة نزلت بالكرد في تاريخهم.
الجغرافيا السياسية في شمال العراق اخذت تتغير، وهو تغير في غير صالح الكرد بالمرة. فقد انسحبت الوحدات العسكرية الكردية من منطقة سنجار قرب الحدود السورية، وهي موطن الايزيديين الذين تعرضوا للمجازر والاستعباد على يد تنظيم “داعش” حين دخل تلك المناطق في آب 2014، وتولت الاوضاع هناك بدلاً منها قوة شبه عسكرية عناصرها من الايزيديين الموالين لبغداد. على الجانب الاخر من الخط الفاصل بين المناطق الكردية وغير الكردية اخلى البيشمركة بلدات خانقين وجلولاء ومندلي القريبة من الحدود الايرانية الى الشمال الشرقي من بغداد.
هذه كلها مناطق كانت الاحزاب الكردية ترسخ فيها وجودها وتمارس سيطرتها طيلة السنوات القليلة الماضية ولكنها الان خرجت من يدها، ربما الى الابد.
تخلى البيشمركة ايضاً عن آخر حقلين نفطيين كانوا يمسكون بهما قرب مدينة كركوك، وبذا يكونون قد خسروا جميع المكاسب التي حققها الكرد على الارض منذ العام 2003. الاستحواذ على حقول نفط كركوك كان شأناً مصيرياً حاسماً بالنسبة لكرد العراق.
شاعت في بغداد اجواء البهجة لما اعتبر ثاني اعظم انتصار للعراق ولرئيس الوزراء حيدر العبادي في هذا العام. كان النجاح الاول هو استعادة مدينة الموصل في شهر تموز الماضي بعد حصار دام تسعة اشهر، والثاني هو الهزيمة السهلة التي لم تكن متوقعة للكرد هذا الاسبوع في اعقاب استفتائهم على الاستقلال في 25 ايلول، ذلك الاستفتاء الذي انقلب عليهم دماراً.
يقول معلق كردي لم يرغب في نشر اسمه: “ما اخشاه الان هو ان تستسلم بغداد لنشوة النصر إذ يدور الحديث الان هناك عن فرض سلطة الحكومة المركزية على كل ركن من ارض العراق.” وهذا قد يعني تسليط بغداد ضغوطاً سياسية وعسكرية شديدة على المحافظات الكردية الثلاث التي يتألف منها اقليم كردستان والتي تبدو الان متمتعة بالنعمة.
دعا الرئيس العراقي فؤاد معصوم، وهو نفسه كردي، الى الحوار بين الحكومة المركزية والقادة الكرد لحل الازمة التي اشعل شرارتها الاستفتاء الكردي، اما العبادي فقد تطرق الى ذكر الاستفتاء وقال انه “انتهى واصبح من الماضي” بيد انه دعا هو الاخر الى الحوار “تحت مظلة الدستور” وهذا معناه استبعاد موضوع الاستقلال الكردي ونبذه جانباً. لم يعد ثمة شك الان في ان ميزان القوة قد مال دراماتيكياً وبقوة الى جانب بغداد مبتعداً عن العاصمة الكردية اربيل.
حاول بارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني يوم الاثنين القاء اللوم على بيشمركة الاتحاد الوطني لعدم تصديها لتقدم قوات الامن العراقية، واصفين اياهم بأنهم غدروا بالكرد وخذلوهم بصفقة منفصلة عقدوها مع بغداد. ولكن مصادر كردية اخبرت صحيفة الاندبندنت ان الحزبين المذكورين قد اجمعا على انهما اضعف من ان يخوضا معركة لأجل كركوك، ولكن الاوامر لم تصل الى جميع قادة البيشمركة في الوقت المناسب. وفي يوم الاثنين انسحبت بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني من سنجار ومواقع اخرى كانت تمسك بها في محافظة كركوك فيما بدا وكأنه اخلاء متفق عليه مسبقاً. من جانبه علق بارزاني اللوم على شماعة ما وصفها بأنها “قرارات اتخذها سياسيون كرد من جانب واحد”، وهو اتهام لا نعتقد انه يشمل به نفسه، رغم ان قراره باجراء الاستفتاء الذي اتخذه بسوء تقدير هو الذي جر الى مواجهة مع بغداد لم تكن للكرد اليد العليا فيها. عملية الاستفتاء واجهت معارضة من قبل جميع القوى الدولية والاقليمية باستثناء اسرائيل، التي لا تتمتع بوضع يمكنها من تقديم المساعدة عملياً للكرد. كذلك اختار بارزاني ان يتحدى العبادي في وقت كانت قواته المسلحة فيه قد احرزت في الموصل لتوها نصراً كبيراً يجعل التراجع والرضوخ من جانبه امراً مستبعداً. اعلنت الولايات المتحدة ايضاً معارضتها للاستفتاء ولكنها نأت بنفسها عن الانجرار الى الازمة. وما كان بوسع الرئيس ترامب ان يبدو أنأى عن الزج بنفسه من قوله: “لا يسرنا وقوع هذا الصدام بينهما.” ثم مضيفاً: “على مدى سنوات عديدة كانت لنا بالكرد علاقات طيبة للغاية، كما اننا وقفنا الى جانب العراق ايضاً كما تعلمون.”
سوف يبقى الجدل بين كرد العراق قائماً لعقود آتية بشأن الطرف الذي يتحمل مسؤولية هذه الكارثة، ولكن الواقع العملي يدل على انها حدثت نتيجة تمادي بارزاني في لعب اوراقه والمراهنة على الحظ، بالاضافة الى الانقسامات الناشبة بين الاحزاب الكردية التي كان من بين نتائجها عدم امتلاكهم خياراً عسكرياً بمواجهة بغداد. بفضل عملية الاستفتاء التي اجروها لم يخفق الكرد فقط في نيل الاستقلال ولكنهم سيجدون ان وضع الحكم الذاتي، الذي كانوا يعتبرونه من المسلمات التي لا جدال فيها، بات مهدداً هو الاخر حين تأخذ بغداد بتشديد قبضتها على المحافظات الكردية. كثير من الكرد سيتهمون يد ايران بالتلاعب بحكومة بغداد والاحزاب الكردية الى ان انتهت بهم الى هذه النتيجة. ايران يسرها طبعاً ان ترى حكومة بغداد وقد اشتد ساعدها وبارزاني، المقرب لدى الولايات المتحدة تقليدياً، وقد نال منه الضعف، ولكن لا حاجة الى البحث عن نظريات مؤامرة لتفسير ما حدث. لقد فرض بارزاني مواجهة لم يستطع الخروج منها منتصراً، وهذا هو جوهر ما حدث.
الصباح |