شعوب في شاحنة
- 'وكالة 24 الاماراتية' - لن نعرف من هم الـ ٧١ شخصاً الذين قضوا داخل شاحنة على الحدود بين المجر والنمسا. لن نعرف أسماءهم لأنهم على الأرجح تخلصوا جميعاً من وثائقهم التعريفية قبل البدء برحلة الموت هذه، أملاً في أن يحصلوا على أسماء جديدة، وحياة جديدة، ولو مؤقتة، في مكان ما من أوروبا، التي على الأغلب لم ينخدعوا بنفاقها حول الإنسانية وحقوق الإنسان، لكنهم لم يجدوا غيرها ملاذاً للهروب من الموت المحقق واليومي والمباشر.
لن نعرف أسماءهم. لكننا نعرف أنهم جميعاً، أو معظمهم، سوريون. ونعرف أنهم عائلات تتكون من رجال ونساء وأطفال. ربما سيقارن معظمنا مع رواية غسان كنفاني 'رجال في الشمس' وسيكتفي كثر منا بالتعليق، ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أقرب الخيال- أحياناً - إلى الواقع.
لكن عفواً. حادثة الشاحنة لا تستحضر رواية، ولا مشهداً أدبياً أو سينمائياً. اللغة تسقط هذه المرة أيضاً، ولا يعود ثمة جدوى، أو معنى، أو عزاء، في رسم المقارنات، مهما ساعدنا ذلك، على محاولة استيعاب ما يحدث، وإيجاد منطق ما له.
ما يحدث، ما يستمر في الحدوث، لمن نسي، هو المأساة السورية، الأضخم بكل المقاييس من كل المآسي التي عرفتها منطقتنا العربية منذ قرون، أو عرفها العالم منذ عقود. حادثة الشاحنة هي تلخيص بليغ لأربع سنوات جحيمية، كان خلالها الشعب السوري برمته، ومعه معظم الشعوب العربية، أسيرة شاحنة مغلقة وطرق مسدودة، وهي تذكار صادم بأن عداد الأيام والشهور والسنوات، مستمر بالدوران وسط انغلاق كل أفق حقيقي للحل.
حادثة الشاحنة، مثل حوادث الغرق، والاختناق، والبرد والجوع والذل، التي يعيشها مئات آلاف السوريين يومياً، تعني أن العالم الذي لم يستطع التصرف لمنع عملية الهروب الكبيرة هذه، ووضع حد للمأساة السورية قبل أن تتفاقم إلى هذه الدرجة، هذا العالم نفسه لم ولن يفتح ذراعيه للفارين من المأساة. سيصد حدوده وأبوابه، مثلما سد سمعه وضميره عن صرخات الاستنجاد والاستغاثة والألم التي ظلت تملأ سماء سوريا يوماً بعد يوم، طوال أربع سنوات طويلة.
لا يتعلق الأمر بالقدر، ولا الخير والشر، ولا منطق العدالة الأخلاقية، بقدر ما بالحسابات الباردة. مئات آلاف الأطفال السوريين الذين تخلى عنهم العالم اليوم، سيعودون في الغد القريب ليحاسبوا هذا العالم. بعضهم القليل ربما تأخذه مسارات الحياة إلى مصائر أفضل، وستتخذ محاسبته منحى انسانياً على الأرجح، لكن الغالبية العظمى لن تتمتع بهذا الحظ السعيد ولن تتمكن من تصريف جرحها وغضبها بهذه الطرق المهذبة.
الفظائع والفواجع التي نراها حالياً، لا يمكن وصفها إلا بأنها تفوق الوصف، وعلى الإنسانية أن تكون مستعدة لمستقبل مليء بفظائع وفواجع أخرى تفوق الوصف، لأنها أخفقت إخفاقاً كاملاً، تاماً، موصوفاً، في فعل أي شيء، لوقف هذه الفاجعة. وإذا كنا نقف مصدومين اليوم أمام ظاهرة داعش، فإن ما ينتظرنا مستقبلاً، لن يقل وحشية عن هذه الظاهرة، إن لم يتجاوزها بأشواط، كما أن شاحنات الموت، وقوارب الموت، التي نراها اليوم ستصبح مجرد عيّنة بسيطة لقوارب وشاحنات أضخم بكثير.
المقال يعبر عن رأي صاحبه ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر أهم الأخبار |