تعثر فكرة القومية العربية
ماجد كيالي
إعادة الاعتبار للفكرة العربية تتطلب التخفيف من طابعها الأيديولوجي والسياسي، وتحريرها من العصبية الإثنية، ومصالحتها مع العصر والعالم، ومع الفكرة الديمقراطية.
استمرأ الخطاب القومي إحالة إخفاقاته، وضمنها تعذر قيام الدولة العربية الواحدة، إلى القوى الخارجية فقط (الإمبريالية وإسرائيل)، دون التبصّر في دور العوامل الداخلية، لاسيما واقع السلطات العربية التي تحكمت في بلدانها، وأعاقت قيام الدولة ومجتمع المواطنين، دون أن نغفل العوامل المتمثلة في تفاوت تطور البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى المفاهيم الثقافية بين البلدان العربية.
مشكلة هذا الخطاب أيضا، أنه أنشأ مشروعه على البديهيات، بحيث باتت الفكرة القومية عنده بمثابة أيديولوجية مطلقة لا نقاش فيها، في حين بات المشروع القومي لديه كأنه مسألة ناجزة تحتاج فقط إلى من يحققها، بالنظر إلى وحدة اللغة والتاريخ والجغرافيا، وكأن هذه العناصر توجب تلك الوحدة بشكل ميكانيكي.
الأنكى أن هذا المشروع توسّل الطرق الثورية (العسكرية)، على نمط المثال البيسماركي لإنجاز الوحدة، وبالتعويل على فكرة الدولة المركز، دون المرور بتوسّطات في الكيانية السياسية (كنفدرالية، فدرالية، تكامل في مجالات معينة)، ودون تدرّجية (مثال ما جرى في الوحدة المصرية السورية)، أو في الغزو العراقي للكويت، دون الالتفات إلى تنمية المصالح المشتركة بين الناس.
على أي حال فإن هذه الفكرة أخفقت بشكل ذريع في حيز التجربة، وهو ما يمكن ملاحظته في مآل التدخّل المصري في اليمن، وإخفاق وحدة مصر وسوريا، وتعثّر المداخلات السورية في المشرق العربي (لبنان وفلسطين والعراق)، ومن خلال التداعيات الخطيرة التي نجمت عن الغزو العراقي للكويت (1990)، ومشاريع الاتحاد بين لييبا والعديد من البلدان العربية. لا بل إن تعثر فكرة الوحدة القومية يمكن ملاحظة تجلياته، أيضا، في تعثر الاندماجات المجتمعية، داخل كل بلد عربي على حدة، على نحو ما نشهد في تصدع الوحدة المجتمعية في اليمن وليبيا وسوريا والعراق والسودان ولبنان.
وبمراجعة للمسار التاريخي يمكن ملاحظة أن الفكرة القومية لم تكن نتاج حالة وعي أو نهوض جماهيري مجتمعي، ولا نتاج حالة سياسية حزبية عربية، بقدر ما كانت نتاجا لثورة يوليو 1952، بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر، كما بمثابة ردة فعل على نكبة فلسطين وقيام إسرائيل.
ومن الناحية الواقعية فإن فكرة القومية العربية ازدهرت في الخمسينات والستينات، وبدأت بالضمور في السبعينات والثمانينات، وانحسرت في تسعينات القرن الماضي. بمعنى أن هذه الفكرة تدين بصعودها إلى زعامة مصر للعالم العربي (في حينه)، حيث اضطلعت بدور الدولة /المركز، في ظل قيادة عبدالناصر بشخصيته القيادية الكاريزمية؛ دون أن نقلّل من أهمية التداعيات التي ولّدتها في المحيط العربي، ولا من قيمة الفكرة القومية في حد ذاتها، لجهة عدالتها وشرعيتها في الواقع العربي.
وعلى خلاف الشائع، فإن هذه الفكرة لم تعم بلدان الوطن العربي بكامله، وإنما انحصرت في منطقة تشمل مصر وبلدان المشرق والخليج، بمعنى أنها لم تشمل البلدان العربية في شمال أفريقيا والسودان.
ومن جهة التجربة الحزبية، فإن هذه الفكرة لم تجد تمثّلا لها إلا في تجربة أحزاب قليلة، ضمنها حركة القوميين العرب، والبعث، وأحزاب ناصرية، وهي كلها تواجدت في بلاد الشام والعراق وبعض بلدان الجزيرة العربية، وظلت محصورة في إطار الفئات الوسطى والأرياف، وفي أوساط بعض المثقفين والعسكريين (في مصر وسوريا والعراق).
بالمحصلة فإن القومية العربية هي بمثابة أيديولوجية سياسية، أنها لم تتأسس على الثقافة والبعد الحضاري والمصالح الاقتصادية، وهذه إحدى نقاط ضعفها، أما نقطة الضعف الأخرى، فتنبع من أن هذه الفكرة ظهرت بمثابة غطاء لتلاعب النظم الاستبدادية، التي حاولت من وراءها مصادرة الحقوق والحريات وتهميش المجتمعات.
المعنى من ذلك أن إعادة الاعتبار للفكرة العربية تتطلب التخفف من طابعها الأيديولوجي والسياسي، وتحريرها من العصبية الإثنية، ومصالحتها مع العصر والعالم، ومع الفكرة الديمقراطية، باعتبارها رابطة ثقافية وحضارية تغتني بتنوع المجتمعات العربية وتعدديتها، وبقيامة دولة المواطنين الأحرار والمتساوين.
نقلا عن العرب |