ليس من سبيل أمام أيّ أمّة أو ملّة تطلب الحياة الحرّة الكريمة، وتتطلّع صوب مستقبل أفضل إلا أن تشرع في تنمية عقول أبنائها كي يتمكّنوا من إنهاض نهضتها عبر تفعيل عقلها.
هل لإنسان يعمل عقله في قراءة القرآن كنصّ سماويّ مفتوح، أن لا يجد نفسه مدعوّا إلى مواصلة إعمال هذا العقل؟ وهل لإعمال العقل الذي يدعو إليه القرآن، ويلحّ بكثافة عليه، أن يقتصر على كلّ قراءة جديدة له فحسب، أم أنّه يشمل كلّ حيّز ومجال ومسألة وشأن؟ مع شروعه في قراءة القرآن، يبدأ الإنسان في تقليب صفحات كتاب كونيّ يحثّ على تفعيل السّمع والبصر والبصيرة وكلّ الحواس والملكات والطاقات الإنسانية المدركة، وفي صلبها جميعا العقل كإطار جامع، في قراءة جميع جوانب الحياة الإنسانية وأنظمة الوجود، تأملا وتدبّرا وتعقّلا وتحليلا واستيعابا وإدراكا وفهما، وذلك بما يستجيب لتراكم الخبرة الإنسانية العملية، ونمو المعرفة، وصيرورة الحياة. فالعقل، وفق تجلياته المفهومية المؤصّلة في القرآن، والموضّحة بإسهاب وتبصّر عقلانيّ متأنّ وحصيف في كلّ ما بني عليه أو استلهمه من كتابات فقهية وبلاغية وكلامية وفلسفية، إنما هو منبع الطّاقة التنويرية ومصدرها الأول، لأنّه هو مجال تكوّن أيّ فكر إنسانيّ تكامليّ يتأسّس على إقامة التّواشج العميق بين المبادئ العقلية الإنسانية الفطرية الجوهرية، والخبرة الإنسانية العملية المفتوحة على التّجدّد الدّائم والازدهار المعرفيّ متنوّع المسارات والسياقات والأنساق.
ولعلّ السّبب الجذريّ الكامن وراء اعتبار الإسلام آخر الرّسالات السّماوية، أي آخر رسالة تبعثها السّماء إلى الأرض، واعتبار نبيّ الإسلام محمد عليه السّلام خاتم الأنبياء والرّسل، إنما يعود إلى حقيقة أنّ الإسلام قد أودع في القرآن أنوار السّماء، وضمّنه منظومات القيم والفضائل السّامية، جاعلا من العقل الإنساني، الذي دعا البشر جميعا إلى إعماله، بمثابة نبيّ أو رسول يتعهّد بإطلاق الطّاقات الإنسانية التّنويرية الكامنة في أعماقه كي يمكّن الإنسان من حمل الأمانة التي اختار حملها، وأداء ما كلّفته به السّماء، ومتابعة تجسيد تجليات رسالتها السّامية في الوجود، وذلك عبر تكفّله، أي العقل النّبيّ، بإيجاد أنجع الطّرق للتّعامل الصّائب مع كل ظرف أو شرط حياتيّ جديد.
وفي ضوء هذا المعنى نفهم أنّ “العقل حجّة الخالق على خلقه” وأنّه هو الحيّز الواسع الذي تتجلّى فيه الحرية الإنسانية وتعمّق وتتسع مسكونة بحقّ الاختيار وتقرير المصير، كما نفهم مدلولات ما تنطوي عليه أبيات شعرية تأملية نطقها، قبل ما يقرب من الألف عام، الشّاعر الفيلسوف أبي العلاء المعرّي، مكثّفا مغزاها العميق في مقولته الشّهيرة “لا إمام سوى العقل” التي تضمّنها أحد هذه الأبيات، والتي أعاد الشّاعر والفيلسوف المسلم محمد إقبال التذكير بفحواها قبل حوالي قرن من الزّمان، وذلك في سياق تواصل وثيق مع ما هو مبيّن في القرآن من دعوة التقطها والتزم بها مفسّرون وقارئون ومفكّرون مسلمون عديدون على مدار القرون.
وفي ضوء هذا المعنى أيضا، وفي سياق إدراك مغزى الالتزام الصّارم بتلبية الدّعوة القرآنية الأولى، الواردة في الآية المنزّلة الأولى، إلى القراءة: “اقرأ باسم ربّك الذي خلق”، والدّعوة القرآنية المتكرّرة إلى تحكيم العقل، ندرك ما أبداه الفقهاء المستنيرون والفلاسفة والمفكّرون والمبدعون والمفسّرون والبلاغيون والعلماء والمثقفون وأصحاب الرّأي، منذ إكمال الدّين وإتمام النّعمة والرّضى بالإسلام دينا حتّى هذه اللحظة من لحظات الحياة المفتوحة على الحياة، من رؤى تفاعلية تكاملية تصل السّماء بالأرض، والقلب بالعقل، والرّوح بالجسد، فتدرك المتسامي عبر تجلياته العملية الحيّة وتأثيره الفاعل في الواقع الحيّ، وتقيم التّواشج بين الفكر والواقع إذ لا ترسّخ صدقية ما يتوصّل إليه الفكر الإنسانيّ من استنتاجات عقلية وخلاصات معرفية إلا عبر التّيقن من انسجامه مع جوهر الأمانة التي عرضت على الإنسان فحملها، ومع مغزى الحياة ومعانيها الكلّية، ومع المقاصد العامة للوجود الإنساني في الوجود. وبهذا المعنى، ندرك أنّ التّوقف عن القراءة وإعمال العقل؛ تأملا في الكون والوجود وجميع مسارات الحياة وشؤونها، ليس إلا تخلّيا غير حميد عن الأمانة التي “حملها الإنسان”، وهو بالتّالي تنكّر للرّسالات السّماوية التي تمّت وأكملت وكثّفت وختمت بالإسلام.
وليس لحقيقة أنّ التّوقّف عن القراءة والإصرار على تغييب العقل قد أفضيا، بسبب ما أنتجاه من خمول وجمود واستلقاء متراخ على حوائط العجز المهيض، ومن تخلّ عن منظومة القيم الإنسانية النّبيلة، إلى تخلّف الشّعوب والأمم التي استبدلت التّخييل به فلجأت إلى الخرافة والكهانة واصطنعت لنفسها أيديولوجيات تخييلية وأقنعة ظلامية تجافي العقل فتنأى بنفسها عن أن تكون إنسانية بأي حال، إلا أن تؤكّد حقيقة أن ليس من سبيل أمام أيّ أمّة أو ملّة تطلب الحياة الحرّة الكريمة، وتتطلّع صوب مستقبل أفضل وأكرم إلا أن تشرع في تنمية عقول أبنائها كي يتمكّنوا من إنهاض نهضتها عبر تفعيل عقلها والشروع في إطلاق طاقاتها الخلّاقة الكفيلة بتمكينها من بدء جنّة السّماء على الأرض.