أمراء الحرب لا يفكرون في هوية من يموت على أيديهم، بقدر ما يهمهم أن تستمر الحرب التي هي مجالهم الحيوي في اللصوصية التي لا تنتعش إلا في ظل الفوضى.
في الحرب الأهلية اللبنانية (1975ــ1990) قتل لبنانيون لبنانيين آخرين برعاية ثقافة العزلة الطائفية. ولكن حدث أثناء تلك الحرب أن قتل مسيحيون مسيحيين آخرين ونكَّل مسلمون بمسلمين آخرين من غير أن يُزاح عن القتل قناعه الطائفي.
لقد هُدمت وخُربت وأُحرقت بلدات وقرى مسيحية على أيدي مسيحيين قدموا من بلدات وقرى أخرى وكانت عمليات الخطف على الهوية تجري بين المسلمين لتزيد من عبثية تلك الحرب التي نسي المشاركون فيها، بسبب التقادم، أسبابها.
في الطريق إلى القتل اللبناني كان هناك فلسطينيون يقتلون ويُقتلون، وهم لا علاقة لهم بالفتنة إن كانت طائفية حقاً. أما حين دخل الجيش السوري لحماية مسيحيي لبنان فقد صار المسيحيون هدفا له. لا يعني ذلك أن المسلمين قد نجوا من القصاص.
مَن قتل بشير الجميل، الرئيس الكتائبي الذي تم انتخابه بمباركة أرييل شارون، كان مسيحياً. أما سمير جعجع مرشح سنة وجزء من مسيحيي لبنان لرئاسة الجمهورية فقد تم الحكم عليه بالإعدام عام 1994 بتهمة ارتكاب مجزرة أهدن التي كان طوني فرنجية أبرز ضحاياها. جعجع وفرنجية، القاتل المفترض والقتيل المؤكد هما من دين واحد، كان القتل قد فرق بينهما.
لم يكن مسلمو لبنان ولا دروزه أقل توحشا وقسوة.
ما حدث في لبنان يمكن توقع حدوثه في كل مكان، يفقد فيه المجتمع بوصلته التي تقوده إلى الحقيقة. حينها يتخلى البشر عن أشياء كثيرة من أجل أن يتماهوا مع غرائزهم البدائية.
يتخلون عن كل القيم الإنسانية والوطنية التي اكتسبوها عبر العصور ليكونوا مجرد وحوش غازية، لا همَ لها سوى القتل والنهب والسلب والانتقام.
في هذا يتساوى اليوم العراقيون والسوريون والليبيون، وقد صار البعض منهم يقتل البعض الآخر في غزوات قطيعية، يلبسونها ثياباً عقائدية، هي في حقيقتها تظل عاجزة عن ستر خيانتهم لشعوبهم ولأوطانهم.
لقد تمكنت الميليشيات من المجتمع، فصارت هذيانات زعماء تلك الميليشيات هي اللقى النفيسة في لغة مجتمع استسلم لعجزه عن فهم ما يحدث له ومن حوله، فلم يعد يقوى على أن يكون إيجابياً في التعامل مع حاضره.
وإذا ما كان الخطاب الطائفي قد أعفى العقل السليم من البحث عما يفرق بين حزب الله في لبنان وتنظيم داعش في العراق وسوريا فإن ثوار ليبيا بميليشياتهم المتناحرة لا يجدون مانعاً من استعادة خطاب القذافي الذي يستلهم فكاهته من غياب العقل أو تغييبه.
وهو ما تعمل عليه القوى المسلحة في مسعاها لنشر الفوضى.
وهكذا تكون الحروب الأهلية التي يشهدها غير بلد في العالم العربي انعكاسا لغياب الرغبة في العودة إلى العقل. وما الحديث عن احتقان واستقطاب وتجاذب طائفي هنا أو هناك إلا نوع من التفسير غير الصحيح الذي يروج لكذبة يُراد لها أن تحل محل الحقيقة. هناك طائفيون. هذا صحيح ولكن القتل كله لا يتم من أجل أن تعلو طائفة على الطوائف الأخرى، ذلك لأن القتل في العراق وسوريا ولبنان يمكن أن يقطف أرواح أبناء الطائفة التي يزعم أمراء الحرب أنهم يدافعون عنها.
كانت صناعة السيارات المفخخة قد ازدهرت في حقبة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الرجل الذي كان مختصا بها في سنوات معارضته. وهي صناعة قتلت من شيعة العراق أضعاف ما قتله من سنته. فهل كان حريا بنا أن نصدق أن المالكي وهو يقود عمليات القتل كان يحابي طائفته؟
أمراء الحرب وقد ابتلي العالم العربي اليوم بهم لا يفكرون في هوية مَن يموت قتلاً على أيديهم، بقدر ما يهمهم أن تستمر الحرب التي هي مجالهم الحيوي في اللصوصية التي لا يمكن أن تنتعش إلا في ظل الفوضى.
ما لم يفهمه الكثيرون بسبب التضليل أن العقائد لا قيمة لها إذا فقد الإنسان شرط كرامته البشرية