منذ سنوات طويلة، أصبح تناول مسألة اللغة العربية يخضع في توجهاته إلى التشاؤم والإعلان المتكرر عن وفاة لغة الضاد وتأزمها العميق، الأمر الذي جعل العديد يتجرأ على وصفها باللغة الميتة، بينما يرى آخرون أنها في حالة موت سريري.
وفي الحقيقة لا يمكن القول إن هذه المواقف كاذبة ومتحاملة على اللغة العربية ومتآمرة على الناطقين بها، ولكن في نفس الوقت لا يمكن اعتبارها - أي هذه المواقف - صحيحة ومعبرة بصراحة عن حقيقة واقع اللّغة العربيّة ومستقبلها. فالفرق بين الموت والتأزم كبير جدا. ولا شيء يُضاهي الموت في قسوته وفي ذروته، بوصفه النقطة الفاصلة لما بين الحياة والعدم.
ولا ننسى في هذا السياق أن اللغة كمكون ثقافي وحضاري قوي ومؤثر في الرأسمال الرمزي للمجتمعات والحضارات، ينسحبُ عليها ما ينسحب على الكائن الحي من حراك وتغيرات، ومن صعود ونزول، ومن مجد وتقهقر، أي أن اللغة تعرف دورات الحياة وحركة الكائن الحي.
وقبل أن نتوقف تلميحًا مختزلاً وسريعًا عند أهم مشاكل اللّغة العربيّة، وكيف أنه لا يمكن أن يعرف الموت إليها طريقًا، نشير إلى أن مناسبة خوض هذا الموضوع دون سواه تتصل بالدّراسة التي أجراها اللّغوي الألماني أولريش أمون والتي أبرزت من بين نتائجها أن اللغة العربية تأتي في المركز الرابع؛ إذ إنها اللغة الأصلية لـ467 مليون نسمة في العالم.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار كم الأزمات ونوعيتها التي تعيشها منذ تاريخ انهيار الإمبراطورية العثمانية المجتمعات العربية، ومن ثمة ثقافتها وطبيعة وجودها الحضاري، فإن ترتيب اللغة العربية في المركز الرابع من ضمن 12 لغة أصلية في العالم اليوم، يعتبر ترتيبًا متقدمًا جدًا ودليل بسالة هذه اللغة وتجذرها التاريخي الحضاري؛ فليس من السهولة إطلاقًا أن لا تتدحرج اللغة العربية إلى المركز الـ12 بعد كل ما عرفه الناطقون بها من استعمار وتخلف ومعارك وحروب استنزاف واقتتال داخلي وأزمات، تدور في حقيقتها على أرض اللّغة والحضارة والثقافة رغم كل ما تضعه من أغطية سياسية تمويهية.
طبعًا لا شك في أن حال اللغة ترتبط دائمًا بالواقع العلمي والاقتصادي والسياسي للناطقين بها. وليس صدفة أن تكون اللغة الإنجليزية الأكثر انتشارًا في العالم؛ فهي لغة الدولة الأقوى في العالم اليوم. ناهيك أن عدم إسهام المجتمعات العربية في المنجز العلمي والتكنولوجي قد أثر سلبًا على آنية اللغة العربية؛ فهي لغة مستهلكة شأنها في ذلك شأن الناطقين بها، خلافًا للمجتمعات الفاعلة علميًا وتكنولوجيًا، التي بحكم فاعليتها كانت صاحبة لغة علمية ومنتجة ومستهلكة في نفس الوقت، أي أن من لا يشارك في الإنجاز العلمي اليوم تفقد لغته الأصلية مكانها ودورها وتكون موجودة فقط بقوة تاريخها لا بكفاءة قدرتها على التجدد والمعاصرة.
ولمّا كانت مجتمعاتنا تعيش أزمة هوية تتمظهر في مظاهر عدّة من الانفصام والتشظي والتردد بين سجلات قيمية مختلفة وأحيانًا متنافرة، فإن ذلك أدى آليًا إلى سوء تقدير للذات الثقافية العربية، انعكس بدوره سلبيًا على طبيعة العلاقة مع اللغة العربيّة. بل إن هناك من يصل به أمر المازوشية الثقافية إلى اعتبار اللغة العربية سببًا من أسباب التخلف العربي عمومًا. لذلك نسجل وجود نمطين من العلاقة مع اللغة العربية اليوم في مجتمعاتنا؛ علاقة تمجيد أعمى وعلاقة تحقير أعمى.
فالمشكلة الكبرى اليوم تكمن في التعامل مع اللغة العربية كلغة لا مكان لها في العصر الحاضر أو في المستقبل، وأنها فقط لغة الماضي.
وفي هذا الإطار سعى الكثيرون إلى تعويض اللغة العربية كلغة أصلية بلغة أكثر انتشارًا وعالمية وجدوى. وهناك أيضًا من تبنى مشروع إعلاء شأن اللهجات العامية على حساب اللغة العربية.
لا نقصد من خلال الإشارة إلى بعض الظواهر التي أضرت باللغة العربية، تمرير رسالة مفادها أن اللغة العربية في أحسن حالاتها وتعيش أبهى عصورها؛ فذاك خطاب يدير ظهره للواقع ويقفز عليه متعاليًا ومتجاهلاً إياه. ذلك أن اللغة العربية تعاني منذ الاستعمار وحتى قبله (قبل تاريخ حملة نابليون بونابرت) من التهميش الذي تراكم مع الأزمات المتوالية ومشاريع التنمية الثقافية العرجاء، التي اتخذتها الدول العربية إبان استقلالها؛ لذلك فإن المصالحة مع الذات والحضارة والثقافة الذاتيتين، في نفس الوقت الذي نتفتح فيه على ثقافات الآخر ولغاته، وحدهما - أي المصالحة مع الذات والانفتاح على الآخر - يُعيدان الاعتبار للغة العربية. فكما نكون نحن تكون لغتنا، وبقدر ثقتنا في لغتنا واعتزازنا الصحي بها تكون فاعلة ومنتجة ومبدعة. واللغة التي تتراجع هي التي، بكل بساطة، يتخلف ركب الناطقين بها عن الإبداع والابتكار.
بيت القصيد: لغتنا العربية تعاني من أكثر من وعكة قابلة للاشتداد أكثر ولكن ليست مهدّدة بالموت.
نقلا عن الشرق الأوسط
تعليقات الزوار سيتم حدف التعليقات التي تحتوي على كلمات غير لائقة Will delete comments that contain inappropriate words