لعل أقسى ما أصاب العراق من كوارث في السنوات العشر الأخيرة إبعاد «العراقية» عن الساحة السياسية العراقية والتعامل «بالمذهبية» بديلاً عنها «فالعراقية» وهي القاسم المشترك لجميع العراقيين، والتي ينبغي أن تحكم وأن يحتكم إليها، طُردت من السوق واستُبدلت بعملة ورقية رثة أُجبر العراقيون على التعامل بها. وكانت النتيجة إلزام كل سياسي عراقي بأن يحتفظ في جيبه بتذكرة هوية يُشار فيها إلى مذهبه، وإلا تعذر عليه الاشتغال بالسياسة.
وقد استتبع هذه الكارثة التي ألمّت بالعراق، كارثة أخرى لصيقة بها هي النظر إلى شيعة العراق على أنهم يؤلفون أكثرية السكان، وإلى سُنّة على أنهم يؤلفون الأقلية، دون توفر أي إحصاء من أي نوع كان. ولم تكن هذه هي المحنة الوحيدة التي ألّمت بأهل السنة. فكما عوملوا كأقلية، دون وجه حق أو دون وجه إحصاء، على الأصح، أُلحقوا بالإهمال ونفوا نفياً شبه تام عن الحياة السياسية، فلم يعد هناك من يمثلهم في نادي القرار، إن كان في العراق مثل هذا النادي - إلا نسيب فقير من هنا ونسيب فقير من هناك، فإذا احتج أحد منهم جاءه الجواب على الفور: لقد حكمتم العراق وحدكم مائة سنة وقد جاء دورنا الآن لنحكمه..
مثل هذه النغمة لم تكن مألوفة في العراق على مدار تاريخه الحديث إلا فيما ندر. فالعراق وطني وقومي ولم يعرف إلا القليل من النزعات الدينية أو المذهبية أو الانعزالية. وإذا صحّ أن الذين حكموه منذ مائة سنة تقريباً من اليوم كانوا من أصول سنّية، فلم يكونوا سنّة بالمعنى السياسي أو الإيديولوجي، بل كانوا «عراقيين» أولاً وأخيراً. وقد احتضن هؤلاء السنّة إخوتهم شيعة العراق واشتركوا معهم في الحكم حتى كأنه ليس هناك لا سنّة ولا شيعة بل عراقيون لا غير. في العهد الملكي الذي بدأ بالملك فيصل الأول سنة ١٩٢٠، تسلم رئاسة الوزارة في العراق أربعة سياسيين شيعة دون أن يعترض أحد أو يحتج بالأقلية والأكثيرة. وفي العراق الجمهوري لم تكن نغمة المذهبية قد عُرفت بعد، فتبارى كل العراقيين في إنشاء نشيد وطني خالص. حتى إذا تسلم البعثيون السلطة لم يكن أحد يعرف من هو الشيعي أو السنّي فيهم. وكان معروفاً أن مؤسسي هذا الحزب في العراق كانوا شيعة. أما صدام حسين فمن الممكن أن يقول المرء عنه ما شاء، ولكن يتعذر وصمه بالمتعصب المذهبي لأنه لم يكن مذهبياً أبداً.
ولا شك أن هذه المذهبية الشيعية العراقية التي كانت أول الداخلين إلى بغداد مع الأمريكيين والإيرانيين، نشأت وترعرعت في أقبية المخابرات الإيرانية والسورية، وقبل كل شيء في نفوس مريضة أعماها التعصب الذميم. ولأنها على هذه الصورة، فقد عبّدت طريق السلطة أمامها وحكمت العراق الفارسي/ الأمريكي منذ سقوط صدام حسين إلى اليوم وكأنها تحكم ناحية من نواحي النجف أو كربلاء، وليس العراق الذي كان مثلاً يُحتذى في عروبته ونزعات التقدم التي كانت سائدة فيه وكلها ذات توجه علماني أو مدني محض.
والمؤسف أن هذا العراق المذهبي الذي نتحدث عنه، لم يُفرز زعامة أو زعامات مذهبية ذات وزن يتحسر المرء على أيام حكمها إذا تركت الحكم إلى المعارضة، فلا شك أن هناك إجماعاً على أن نوري المالكي كان أسوأ من وصل إلى السلطة في بغداد منذ العصر العباسي إلى اليوم. فقد نهب المال العام، وبالمليارات لا بالملايين، وصحّر الخزينة العراقية، وملأ الجيش العراقي بالأنصار والمريدين حتى وصل العراق إلى ما وصل إليه اليوم بفضل جيش المالكي وبلائه البلاء العظيم في الموصل.
وقد لا يكون إبراهيم الجعفري وزير الخارجية الحالي، وهو رئيس حكومة سابق أيضاً من نفس معدن المالكي، ولكنه بالتأكيد مذهبي مثله، ومرتبط بإيران مثله، ومثله في الإلحاح على عراق فارسي لا مكان فيه لأهل السنّة إلا في الفلوجة والرمادي وإقليم كردستان. بل إنه يكفي للمرء أن يحّدق في وجه الجعفري حتى يتأكد أنه قادم من مجلس عزاء حسيني أو ذاهب إليه.. وما هكذا تُحكم الأوطان.
ووزارات الخارجية بالذات يُفترض أن تديرها مصالح البلاد العليا، لا المصالح الخارجية.
ومع أنه لم يُتح لسنّة العراق أن يشاركوا في السلطة في العراق في السنوات العشر الأخيرة، كما يفترض أن تكون المشاركة، إذ أُقصوا عن الحياة السياسية إقصاء شبه تام، إلا أن من الواضح أن رئيس مجلس النواب السابق أسامة النجيفي هو أفضل من أطلعه العراق من سياسيين في سنواته الأخيرة. فهو ابن تراث الحكم، وابن مدينة الموصل السنّية في أمالي العراق، وهي من مدن الثغور كما هو معروف.
ولمدن الثغور تاريخ ودور متميز في تاريخ العرب والمسلمين. ومن المؤسف أن النجيفي وُضع جنباً إلى جنب مع المالكي، فقد أُبعد عن رئاسة المجلس لأن المالكي أبعد من رئاسة الحكومة، وقد عُين بعد ذلك، ومع المالكي أيضاً، نائباً لرئيس الجمهورية مع أن ملف هذا مختلف اختلافاً جذرياً عن ملف ذاك. ويبدو أنه كان من المستحيل أن تسمح إيران بصعود زعامة سنّية محترمة في العراق فالمسموح به هو «المطلك» ومن إليه. والمسموح به، والمرحب، هو المالكي ومن هو في حكمه، في السلطة. فالعراق في الأصفاد، أو في الأسر، الآن.
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن سنّة العراق هم العراق في واقع أمرهم، ومن الغبن إلحاقهم بعالم المذاهب والطوائف. فهم الذين بنوا العراق وبنوا إدارة فيه، وأنشأوا التعليم، وأرسلوا البعثات العلمية إلى الخارج، وفي أيامهم تأسست الجامعات، وبات للعراق دولة حديثة قبل أن يصل مجموعة ضباط إلى دار الإذاعة ويذيعوا البلاغ رقم واحد والبلاغات اللاحقة. ومن يومها خرب العراق.
لذلك يمكن القول إن أذى بالغاً قد أصاب العراق بإبعاد سنّته عن المشاركة الكاملة في حكمه، وبالتالي التعامل مع هؤلاء السنّة على أنهم أقلية من أقليات العراق وهم سادة تاريخه بل روحه، وريحانه كما يقول أهل الألفة والألاّف.
وزاد في نكبة هذا البلد العظيم أن سادة الأمر والنهي فيه، من الشيعة، لم يكونوا «على قدّ المقام» كما نقول بالعامية. فهم لم يتمرّسوا يوماً بالسلطة منذ أيام الخلفاء الراشدين، والسلطة كما هو معروف مراس وخبرة وتراكم تجارب ونقل تجارب من جيل إلى جيل. طبعاً لا يشكّ أحد في إجادتهم فن الرثاء، وفي النواح على الأئمة الراحلين وعلى الديار والدمن الخوالي، وتبلغ الإجادة ذروتها في الوعظ وفي التنظير وشرح أحداث التاريخ. تلك مقدرة لا ينكرها عليهم أحد، ولكن كل هذا شيء وفن الحكم شيء آخر. الحكم والإدارة وتسيير شؤون الدولة والناس ليست علما من علوم الغيب، بل هي من العلوم العصرية الحديثة التي ينبغي أن يؤذن للعقل وحده بأن يحكمها ويقودها. وقد حاول المالكي وصحبه أن يوكلوا أمر الدولة التي انتهت إليهم، إلى الغرائز والمصالح المذهبية الضيقة، ففشلوا إذ وثب داعش على حين غرة إلى ثكنات الجيش العراقي المذهبي في الموصل، فإذا بهذه الثكنات مجرد عنوان أو أثر بعد عين. ولم يكن كل ذلك ليحصل لو أُعطي الخبز للخبّاز. لقد أُعطي الخبز من لا يجيد صناعة الخبز، وحُرم العراق من جهد أبنائه الأكفاء المخلصين، وجرى التعامل «بالهوية المذهبية» فذُبح العراق من الوريد إلى الوريد!
جهاد فاضل
الراية القطرية