حسمت معركة تكريت، أو تكاد، لصالح الميليشيات الطائفية التي تدعى بـ”الحشد الشعبي” والقوات العراقية المساندة لها. وفي حين تمت المعركة بتخطيط وقيادة إيرانية، بدأت مخاوف كل من أميركا ودول الخليج العربي تصبح جدية بخصوص توسع نفوذ إيران في العراق.
تجاوزت الولايات المتحدة الأميركية المفاجأة التي تلقتها بإعلان معركة تكريت قبل نحو أسبوعين بقيادة قاسم سليماني ومن دون مشاركة قوات التحالف الدولي. وأعربت، بشكل واضح، عن “قلقها” حيال وجود مستشارين عسكريين إيرانيين إلى جانب القوات العراقية في المعركة. وخصوصا، أنها المرة الأولى التي تبدو فيها القوات العراقية وكأنها استعادت توازنها وتماسكها، وبدأت بالتخطيط لهجمات على تنظيم الدولة الإسلامية بصورة مستقلة عن التحالف الدولي.
ففي صيف العام الماضي اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية مدنا وبلدات شمال العراق، الواحدة تلو الأخرى، وسقطت جميع المراكز العسكرية للجيش العراقي الذي تفكك وفرّ هاربا من أرض المعركة، وكان لذلك دلالة هامة توضح البنية الهشة لهذا الجيش الذي ينخره الفساد بقيادة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. في ذلك الوقت، استنجدت الحكومة العراقية بالأب الروحي لها، أي بأميركا، الدولة العظمى التي كانت قبل عقد من الزمن قد غزت العراق ونصّبت حكومة تابعة لتدير شؤون البلد المدمّر والمحتل.
مع عودة التواجد الأميركي في العراق لدحر تنظيم الدولة الإسلامية، بدا وأن العراق يعود إلى الهيمنة الأميركية من جديد. غير أن عاملا جديدا كان قد نشأ خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة في أعقاب انسحاب الجيش الأميركي من العراق. إذ أن تخلي أميركا عن الحكومة العراقية، بمؤسساتها التي تشكلت وتطورت كجسم سياسي تابع وفاسد، أفسح المجال لكي توسع إيران من نفوذها وتصبح اللاعب الأول في العراق. وهو نفوذ جعل إيران تفاجئ قوات التحالف بالتخطيط وإدارة معركة تكريت، بل وبإطلاق تصريحات علنية على لسان مستشار الرئيس الإيراني تعتبر، بصلف واضح، أن بغداد هي “عاصمة الإمبراطورية الإيرانية”.
حتى الآن، لا يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تعبر عن قلقها انطلاقا من الخشية من توسع نفوذ “الإمبراطورية الإيرانية”، فهي لا تشير إلى ذلك بشكل مباشر، بل تعتبر في تصريحات أخرى أن الدور الإيراني في العراق قد يكون مفيدا على نحو ما. أما القلق الأميركي فيرتبط كما أعلنت إدارة باراك أوباما، مؤخرا، بما يمكن أن يحفزه التواجد الإيراني من “نزاعات طائفية في العراق بين السنة والشيعة”، وهو ما يمكن أن “يجهض الحملة ضد تنظيم داعش”.
فيما يمكن للمتابع للشأن العراقي أن يدرك بأن “النزاع الطائفي” قد بلغ حدوده القصوى قبل أكثر من عام ولا ينتظر “معركة تكريت” ولا صور قاسم سليماني. تتجاهل أميركا، متعمّدة، أن تأسيس ميليشيات “الحشد الشعبي” تم بفتوى من مرجعية طائفية وبهدف تحفيز الغرائز الطائفية، وبأن مجازر عديدة ارتكبت ضد سكان المناطق التي تعمل أميركا مع إيران والميليشيات الطائفية على “تحريرها” منذ أشهر. كل ذلك سبق بأشهر عديدة معركة تكريت.
في الحقيقة، يبدو أن العمل جنبا إلى جنب مع الوجه الآخر لداعش، أي مع الميليشيات الطائفية العراقية، يشكل المصدر الحقيقي للقلق الأميركي، أو ربما للتظاهر بالقلق من أجل تبرير هذه الوضعية على المستوى الداخلي. وهي صورة لا يمكن لإدارة أوباما أن تنجح في تجميلها أمام خصومها في الداخل.
أما المصدر الآخر للقلق، فقد عبّر عنه رئيس أركان الجيش الأميركي، مارتن ديمبسي، عندما تخوف من أن تنقلب ميليشيات “الحشد الشعبي” التي تدعمها إيران على الولايات المتحدة في أي لحظة. وهي تخوفات مشروعة تماما، وتبدو قريبة من التحقق، إذ أن “انتصار” ميليشيات “الحشد الشعبي” في معركة تكريت سوف يكرس وجودها باعتبارها الجسم العسكري السياسي الأكبر والأقوى، والتابع بصورة مباشرة وعلنية لإيران.
من هنا، لا تحمل معركة تكريت بعدا عسكريا تكتيكيا فقط كما يجري تصويرها، بل ربما تحمل أبعادا سياسية ومعنوية أكبر، حيث ترتبط بمحاولات إيران امتصاص صدمة دخول قوات التحالف إلى العراق صيف العام الماضي، والعمل على تهميش دورها وتصعيد دور الميليشيات التابعة لها.
كما تتخذ أميركا من خلال التعبير عن القلق موقفا احترازيا، تغسل بموجبه يديها من أي مجازر واسعة النطاق من المنتظر أن ترتكبها تلك الميليشيات ضد سكان المناطق السنية التي يجري الهجوم المكثف عليها حاليا.
الواقع يقول بأن معركة تكريت لن تقضي على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، لكنها ربما تكرس نفوذ إيران في البلد المفتت. كما يقول هذا الواقع إنه وفي منطقة عرفت سابقا توترات طائفية عديدة، فإن إيران تنفذ اليوم أوسع موجات التطهير والتغيير الطائفي التي عرفتها المنطقة، وأن ذلك قد جرى، ويجري حاليا، تحت أنظار التحالف الدولي. ألا يثير ذلك الكثير من القلق؟
تعليقات الزوار سيتم حدف التعليقات التي تحتوي على كلمات غير لائقة Will delete comments that contain inappropriate words