حسينيون ضد الحسين
الهوية الحقيقية لثورة الحسين هي أنها ثورة أخلاقية، فلو كانت سياسية فإن هدف القائم بالثورة يكون الوصول إلى السلطة فيما الحسين كان يعرف أنه مقتول. ولو كانت إسلامية لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير إسلاميين بينهم غاندي. ولهذا فإن الثورات السياسية غالبا ما صارت منسية فيما ثورة الحسين تبقى خالدة، والسبب هو أن موت الضمائر وتهرؤ الأخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس إلى قسمين: حكّام يستبدون بالسلطة والثروة، وجماهير مغلوب على أمرها، فتغدو القضية صراعا أزليا لا يحدّها زمان ولا مكان، ولا صنف من الحكّام أو الشعوب. ومن هنا كان استشهاد الحسين يمثل موقفا متفردا لقضية أخلاقية مطلقة، ما دامت هنالك سلطة فيها حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم، وحق وباطل.
كان بإمكان الحسين أن ينجو وأهله وأصحابه بمجرد أن ينطق كلمة واحدة “البيعة” لكنه كان صاحب مبدأ “خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي”، والإصلاح مسألة أخلاقية، ولأنه وجد أن الحق ضاع “ألا ترون أن الحق لا يعمل به”، ولأن الفساد قد تفشى وشاعت الرذيلة، فكان عليه أن يختار بين أن يوقظ الضمائر ويحيي الأخلاق، أو أن يميتها ويبقى حيا، فاختار الموت وتقصّد أن يكون بتلك التراجيديا الفجائعية ليكون المشهد قضية إنسانية أزلية بين خصمين: سلطان جائر، وجموع مغلوب على أمرها.
كان الوقوف بوجه ظلم السلطة وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان كرامة الإنسان التي أكد عليها الإسلام هي القيم الكبرى في ثورة الحسين، فتعالوا نطبّق هذه القيم على السلطة في العراق التي يقودها “حسينيون”. العراق الآن فيه عالمان؛ عالم السلطة المحدد بمنطقة صغيرة في بغداد (10 كم مربع)، وعالم كبير هو العراق. والذي حصل أن هذه المنطقة سرقت أحلام العراقيين وجلبت لهم الفواجع اليومية، وأوصلتهم إلى أقسى حالات الجزع والأسى، وعزلت نفسها مكانيا ونفسيا عن الناس بأن أحاطت وجودها بالكونكريت والحراسة المشددة، ولو أنها كانت قد اتبعت منهج الحسين لكانت قريبة من الناس لأن الحسين ساكن في قلوبهم.
والمخجل أن إساءة السلطة للإمام الحسين وصلت إلى الخارج. فبدل أن نقدم الحسين رمزا إنسانيا لعالم أفسدت أخلاقه السياسة، فإن السلطة ارتكبت إساءة بالغة بحقه أمام الأجانب. ففي مقالة لكاتب بريطاني اسمه دافيد كوكبورن نشرها في صحيفة الاندبندنت بعنوان “كيف تحولت بغداد إلى مدينة للفساد” جاء فيه: أحسست بألم وأنا أرى شعارا مكتوبا على لافتات سوداء بساحة الفردوس “الحسين منهجنا لبناء المواطن والوطن”. عشر سنوات منهج حسيني، والنتيجة حكومة حرامية. عشر سنوات في الحكم بميزانية تقارب تريليون دولار، أي ما يقارب حاصل جمع ميزانيات العراق خلال 80 عاما، والنتيجة أن زخة مطر تُغرق عاصمة الثقافة العربية. عشر سنوات من الفساد المالي والسياسي وضع البلد على حافة الانهيار، وكل ما تملكه حكومة الحرامية شعار “الحسين منهجنا لبناء المواطن والوطن”.
فأي إساءة أشدّ وجعا من إساءة يدعي أصحاب السلطة أنهم حسينيون فيما أعمالهم تناقض مبادئ الحسين وقيمه، وأقبحها أنهم تركوا ملايين، أوصلوهم إلى السلطة يعيشون في بيوت الصفيح بينهم من يفتش عن قوت يومه بنبش الزبالة، فيما صاروا بعد أن كانوا معدمين، يعيشون حياة باذخة ويشترون الفلل والشقق الفارهة في بيروت وعمان وشرم الشيخ ولندن وباريس.
كنا كتبنا في زمن نوري المالكي أن حكومته هي أفسد حكومة في تاريخ العراق، وأنه لا يمكن لحكومة فاسدة أن يكون رئيسها نزيها، وأنه ارتكب جريمة كبرى بسكوته عن محاسبة الفاسدين ولم يشفع له قوله “لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لانقلب عاليها سافلها”، بل أدانه لأن الجميع فهمها أنه لو كشف الفاسدين وأبناء المسؤولين من الخصوم لفضحوه. وسيذكّره التاريخ، وشركاؤه، بأن القيم الأخلاقية في زمانه تهرأت وانحطت لدرجة أن الفساد صار يعدّ شطارة بعد أن كان خزيا في قيم العراقيين، فخلّف بذلك معضلة شاقة لسلفه حيدر العبادي، فرغم أن وثيقة الاتفاق السياسي في حكومة الوحدة الوطنية (2014) تضمنت بندا ينص على محاربة الفساد المالي والإداري ومحاسبة المفسدين، فإنه لم يستطع أن يحاسب أحدا من الذين وصفتهم المرجعية الموقرة بـ”الحيتان” وبينهم حيتان حسينيون، وانشغل في الأشهر الثلاثة الأولى بإستراتيجية إطفاء الحرائق التي أشعلها سلفه، الذي صار النائب الأول لرئيس الجمهورية، ثم انشغل بـداعش التي أراحت الفاسدين وجعلت الفساد قضية ثانوية.
لقد وصل اللاحياء أن مسؤولين فاسدين نهبوا المال الحرام وأثروا ثراء فاحشا يجلسون في مجالس العزاء الحسيني وأيديهم على جباههم حزانى ويبكون، فيما هم فعلوا ويفعلون عكس قيم الإمام الحسين، ما يطرح التساؤل أمام زيفهم هذا وما أحدثوه من خراب للقيم: ماذا لو خرج الإمام الحسين الآن في بغداد متوجها إلى المنطقة الخضراء، ترى هل سيستقبلونه بالأحضان؟ أم أن بينهم من سيكون أقبح من الشمر بن ذي الجوشن؟
د. قاسم حسين صالح
احرار العراق |