إن تأريخَ القضية الكوردية تأريخٌ طويل ، وقد مر بمراحل شتى ، وهي إحدى تلك القضايا التي سال الحبرُ فيها طويلاً ، والكورد بدورهم من الشعوب المقهورة المُتلاعب بها المغلوبة على أمرِها من قِبل الحكومات المتوالية على الحكم في العراق ، والتي لم تدخر جهداً في مناصبة العداء للكورد وتقشير عصا العداوة لهم ، بل وكانت مصّرة كُل الإصرار على مصادرة فضائهم الروحي ، وتحطيم قوتهم بالفقر والجهل والمرض ، وجاهدت في أن تدوس أحلامهم النبيلة تحت أقدام التدافع الأهوج نحو السيطرة المطلقة على المنطقة ، فنال الكورد من المشقة والحرمان قسطاً كبيراً وقاسوا ضروباً من القسوة ، وعانوا الكثير من ألوان الرُعب والخوف ، وصنوف الظلم ، وأنواع الآلام ، حيث كانوا منغمسين في الظلام ، غارقين في الظلم ، تائهين في بحر من الجوع والذل والحرمان ، ناهيك عن منعهم من التعاطي بالمهن الإدارية المرموقة ولا يُرّقون بالجيش ، بحيث لا يتولى الكوردي الصميم عملاً قيادياً بتاتاً ، فوجدوا أنفسهم ملزمين بالأعمال الخدمية . بل كانت تلك الحكومات تأخذ من عرق جبين الفلاح ، ومن كد يمين الفقير البائس ، وحَرمتهم من حقهم في العرق والدمع والدم ، وتمادت كثيراً بشتّى ضروب الظلم التي لا يسعني حصُرها كلها في سطوري هذه .
فأحقن ذلك القيح في نفوس الكورد ، من فداحة الظلم الذي وقع عليهم ، مما أدى إلى خلق أزمة حقيقية ، ولا بد من أزمة كي يبرز عظيم ..إذ لا عظيم بدون أزمة ، وأعظم الرجال لا يظهرون إلا في أوقات الخطر والعنف والشدة والقسوة التي تستدعيها ضرورة الموقف ، فاتجهت العيون الجائعة والمظلومة صوب بارزان محراب كوردستان ، والبؤرة التي تجتمع فيها أشعة الحماسة الوطنية ، لاحتياجها إلى القائد الذي يتألم بآلامها ، ويحس بإحساساتها ، وينطوي على عواطفها ، حتى إذا نطق نطق بمعانيها ، وهاج بجراحها ، وبعث شهامتها ، وأكسبها اللغة التي تعبر بها عن رفضها للظلم . فكانوا على جانب كبير من الإدراك والعمق من أن “ملا مصطفى بارزاني” أهل لرفع هذا الحيف عنهم ، فاجتمعت فيه آمال الأمة كلها ، ووجد الشارع الكوردي في شخص ملا مصطفى مذهباً جديداً ، مذهب الثورة ، مذهب الحرية ، مذهب كوردستان أولاً وكوردستان أخيراً ، وبارزاني بدوره لبى نداءات شعبه ، فأومأ من قلبه إلى قلوب الجماهير ، ومن جراحه إلى جراحهم فاستجابت له الجموع ، فكان يخاطب رجل الشارع بكلمات بسيطة فيفهمها ، فتدخل قلبه وتختمر كنظريات فلسفية جديدة تعلو على صناعات الكلام لكونه الشخصية الحاسمة في تاريخ الكورد ، وهو كل المعاني العميقة للضمير والشرف ، كان مصباً للأزمات لا منبعاً لها ، وفي ذلك الوقت أيقن ملا مصطفى وأيقنت الجماهير من خلفه أن الثورة هي السبيل الوحيد ، فنبه الغافلين ، وأنطق الصامتين ، وشمّّر ساعد الجد وجمّع الأفراد وارتفع صوته واختلطت معانيه بمعاني أصوات تحيط به ، فأصبحت الأصوات الكثيرة صوتاً واحداً شاملاً يهز الدنيا هزاً ، موحداً لمن اختلفوا ديناً وعقيدة بلا تفريق بين المحمدي والعيسوي ، فكان مخططاً جيداً وماهراً استطاع جذب الجماهير حوله وجمع شتاتهم ، وكانت كلماته المؤثرة من النوع الذي يبقى صداها في الآذان طويلاً لتتحد تحت تأثيرها القلوب ، فيطرب الجميع لطرب واحد ، ويتوجعون لحزن واحد فيسعون لمصلحة شريفة واحدة . فقاد رجالاً خرجوا يواجهون القدر ويقتحمون التاريخ ، ملئوا بصرخاتهم الأجواء وصفحات الكتب . أصحاب الأنوف الشامخة ممن لهم القدرة على شحن كتب التاريخ بما يشاءون فعالاً لا أقوال ، فقد تسلحوا بطول الأمل ، فطول الأمل يبلغ الهدف ، وكأنهم جماعة منتقاة من الأبطال ، تجدهم أقوياء كسن الجمل ، يقاتلون للبقاء أو الفناء ، جادون في سحق أنفسهم من أجل تجريف منطقة الأنين ، وتحويلها إلى مراعي خضراء كما كانت ، يبذلون أنفسهم في الملمات ، مسارعين إلى مواطن النجدة ، راكبون الصعاب لا ذلول لهم .
ولم تكن الحكومة حينها تختلف كثيراً عن سابقاتها ولكن كان الشعب الكوردي يختلف عن سابق عصوره ، لالتفافه حول قائد كملا مصطفى الذي أصر على حقه الشريف ، وأصر النظام على استبداده ، فكان الصدام ، فتفجرت الثورة بعد اختمار ، فعتا النظام وانتفض الكورد المسلحين بالضمير الحي والشرف الأبي ، فكان حق الثوار أقوى من باطل النظام ، فضربوه في أماكن مؤلمة قسمته إلى فرق وكسور ، وأرسلوا صرخة عالية أظهرت جميع رموز النظام بمظهر الجبن ، فاستطاع من خلالها تحريك الخوف في قلوبهم ، مما جعل النظام يطالب بالتفاوض في مناسبات غير قليلة .
وحين ندرس طبيعة الأشخاص الذين ساهموا في الثورات ، في شتى أطوار التاريخ ، نجدهم لا يختلفون عن بعضهم اختلافاً أساسياً ، فالإنسان بوجه عام حين يدعو إلى المبادئ العالية ، أو يثور من أجلها ، إنما يبتغي منها مصلحته الخاصة أو مآرب شخصية . أما الذين يؤثرون المصلحة العامة على مصالحهم فهم قليلون ، وقليلون جداً.
فأي مجد ينتظر أولئك الذين يكافحون من أجل هدف غير أناني ، كانوا فارغو الجيوب مليئوا القلوب . ضاعفوا تسلحهم بالإيمان ، فأحبوا الوطن دون مقابل ، فكان المعدن الأكثر قداسة موجود فيهم وبذلك هم ليسوا في حاجة إلى ذلك المعدن الأرضي (الذهب) ، فأثبتوا أفضليتهم وصلابة معدنهم ، ونالوا أوسمة البراعة ، لأنهم رجال من طرازٍ خاص ألهمتهم الثورة شرفاً جديداً ، فاستهانوا بالحياة ، واستخفوا بالموت ، ودججوا قلوبهم بالروح المقاتلة الثائرة ، روح الاقتحام وعدم الخوف ، لقد اُعدوا لأهداف عظيمة وطبع نبيل ، يحاربون بولاء تام ، حتى النفس الأخير الذي تنفث صدورهم به .
أما قائدهم وملهم ثورتهم فكان ولا يزال ملك القلوب ، حيٌ ما حيينا ، له رنين في قلوبنا ، تتذبذب كل جوارحنا به عزاً وفخراً ، ذو شخصية مقدامة لا تخاف الموت ، انه باق في فكر وضمير الشرفاء من حاملي الروح الإنسانية ، جعل كفاحه من حياته قصيدة عالية الشرف والشهامة والسمو ، فقيمه ومثله العظيمة أرَّقت كل أولئك الذين أرادوا القضاء عليه ، كان هو على ضمير يقظ في العدالة من الذين يفكرون في مروءة القلب وشرف العقل ، في رصيده من الأخلاق ما كان يبعث الحسد عند أعدائه الذين كان يحس بغدرهم إحساساً عميقاً ، ولكنه كان متيقناً بأن المستقبل سيقف في صفه وصف قضيته وصف شعبه ، ومع أن بعض السلبيات اكتنفت ثورته ، كان واثقاً بأن الثورة لن تموت لأن الشعب آمن بها ، ولأنه كان عارفاً بالهدف الأخير ، ومدركاً بثاقب بصره ما سوف يحدث بعده ، كان يرى شعاع النور يخترق أكفان الظلام ، فقد مهّد ولمّح في نظراته إلى الشباب وكأنه يخاطبهم قائلاً : (( يا لسعادتكم ستشاهدون أشياء بديعة جميلة)) ، فعقد الشباب عليه آمالهم ورأوا فيه مرشداً مستقيماً وأباً صديقاً ، فكان منهم بمثابة المعهد العلمي الذي لا يقل أهمية في توجيهه عن الجامعات ، فعلّم أجيال وأجيال النضال وحب الوطن الذي هو الإنسانية كلها ، وأسس فيهم فكرة الانتماء ، فجعل الكورد بقوة الحق وبحق القوة امة عصرية حرة ، لا تسكر بعاداتها وعقائدها وتقاليدها القديمة ، بل تعيش بالعقل والرأي والمنطق ، ليصبح هذا الجبل الشاهق والطود الراسخ مثلاً فريداً في عصره ، وَطِدَ القلوب كحقيقة خالدة وعقيدة ثابتة لها صداها في العالم أجمع .
نعم ، هو أقدس شخصية عرفها الشعب الكوردي . وليس ذلك لأنه كان ثائراً فقط ، بل لأنه لا يحس بوجوده منفرداً ، إذ يدخل الجماهير في صميم وجدانه ويصيرون جزءاً لا يتجزأ من تكوين شخصيته ، فجل همه كان منصباً على الجماهير ، لا يشعر بذاته ولا يحب مصلحتها ، لأن ذاته الخاصة قد اندمجت في ذات الجماهير فكبرت ذاته ونمت حتى أصبحت تشمل الإنسانية جميعاً ، كان الأعلى صوتاً ، وقف حياته لمكافحة الظلم والاستبداد ، لكي نحيا نحن اليوم حياةً ذات معنى ، شجاعته رصينة ، وصوته عميق ، وكلامه موزون ، لا تأخذه العجلة ، ولا تأخذه الحدة أو يستبد به الغضب ، يحمل جراح الأمة بكرامة وجلال ، باذلاً لذلك كل جهده قدر طاقته وظروفه ، مواقفه صارمة لا لين فيها ولا تساهل إلا في ما هو إنساني ، وهو أفضل صديق لنفسه ، ويبتهج في الوحدة ، وينأى بنفسه عن التفاخر والتظاهر ، فكان بسيطاً داخل جدرانه ، وكان يلقي ضوءاً في كل ميدان ، وجارياً من حقل إلى حقل ينثر بذور أفكاره ، كانت خططه جريئة وطموحة ، وأن كبر هدفه يضفي على أسلوبه جلالاً وعظمة وضعته دائماً في القمة . إنه صورة كوردستان ، وثروة الكورد ، وعنوان عصره ، وإن اسمه يصف عن تاريخ كوردستان كلها ، كان يبدو هادئاً ولكن في نفسه هماً وكرباً ومتألماً أشد الألم فرقاً على شعبه ، ولأجل ذلك تجده يكافح من أجل هذه الغاية بسعادة ولذة وثقة . تمتع بشجاعة لا تقل عن طموحه ، شديداً في العدل لا يجاري ولا يماري ، متواضعاً لين الجانب ، حكيماً واقعياً لا يفرض على أصحابه أمراً لا يرضون به ، مشاوراً لهم ، مصغياً لمختلف آرائهم ، ذو سلوكاً رصين ، وشخصية بعيدة الغور ثاقبة البصر من طراز فذ عجيب ، ومن أصحاب النظر البعيد والرأي السديد ، وكان كشجرة باسقة ضارباً بجذوره بعمق ليستظل بها الناس ، مجبول على التضحية ، رائده الرحمة والعدل والمساواة ، أدهش العالم بشجاعته الفائقة ومحبته ، وعطفه على الإنسانية ، ذائباً شوقاً في خدمة الحق والحقيقة ، امتاز بصراحة جريئة مقرونة بمقاومة شديدة لكل أنواع التملق والمداهنة ، قادراً على تنظيم استدلالاته بدقة لاعب الشطرنج ، وفق بين أفكاره ذات الأهمية الدائمة وصهرها جميعاً في بوتقة الواقع ، قرع بها ناقوس الحق بحماس الثورة ، فنبوغه في القيادة استلفت نظر كبار العالم ، وجعلت له مكانة طاغية وباقية في الفكر الإنساني ، فكان مثار إعجاب العالم وانبهاره ، وليستهوي أفئدة البشرية واهتمامها وجذب استماعها والتفاتها ، لتطبق شهرته الآفاق .
فجاء الميعاد الذي لا بد من مجيئه ، لنفقد ، بل لتفقد الإنسانية رجلاً قلما يجود الدهر بمثله ، وفي هدوء بعيداً عن جلبة الحياة وصخبها ، رحل عنا هذا الشامخ ، مسلماً روحه الزكية بهدوء ، مواجهاً قدره العنيد الذي أبى أن يلين ، فبكته الجموع بصوت مختنق من المرارة والحسرة والأسف ، ليكون مصاباً جللاً مؤثراً ، يهز النفوس ، ويرسل الدموع في المآقي ، ويخلع القلوب . ولا يسع الإنسان إلا أن يشعر بالخسارة الجسيمة بانتهاء حياة هذا القائد الخالد ، وأن لا يقف إلا موقف الاحترام والتقدير أمام جوهره و عمقه و روحه .
نعم ، نحن وارينا في التراب جسده فقط ، أما روحه فباقية ، لقد رحل عنا ولكن ذكراه بقيت على مدى الأجيال تحفز الناس على الثورة وتدعوهم إلى طلب العدل ، ولتبقى شخصيته ملجأ روحياً لكل من يشكو من الظلم أو الاستعباد، ليجد فيها مأوى يحميه من نوائب الزمن ، إنه كالشمس التي تبدو لأعيننا بأنها غاربة ولكنها في الحقيقة لا تغرب أبداً وتضئ بلا انقطاع ، وعقولنا أضواء متقطعة قياساً بضوءه الأبدي الدائم الاتقاد . أما كلماته المطعمة بالحكمة ، المعطرة بالذكاء ، والمحصنة بالعقل كانت أمضى من بندقيته ، وهي خمائر تعمر نفوس أتباعه ، وعباراته القصيرة كانت تقوم مقام المكافأة تتناقلها الألسن وتتناولها الأفواه ، وتصبح بمثابة الوسام الذي يحمله الأبطال في هذا العصر ، كان عاشقاً لجبال كوردستان الشاهقة عشقاً خلب لبه وسيطر عليه ، وحاز على قلبه وحبه ، نعم هو باقٍ فينا بقاءاً لا نهاية له .
ولكننا وجدنا العزاء والسلوى في وداع هذا الزعيم في وجود صورة صادقة له متجسدة بشخصية الرئيس مسعود بارزاني التي لها أثر واسع في الجيل الحديث ، كصوت بليغ للتفاؤل ، وشلال جديد من الأماني ، ووريث شرعي للثورة ، نجده اليوم مستمداً القوة والصبر من نضال بارزاني الخالد اللامع الذي انساب بإشراق في صفحات التاريخ . فكلنا مدينون للبارزاني الخالد في إلهامنا ، معتبرين بعظاته البالغات ، الباعثة في الأذهان تصوراً بأن المستقبل لنا
تعليقات الزوار سيتم حدف التعليقات التي تحتوي على كلمات غير لائقة Will delete comments that contain inappropriate words