أولا: شهد التاريخ البشري انتهاكات لا تحصى على ايدي الحكام الطغاة والغزاة، ممن ارتكبوا افعالا وحشية على مر العصور والازمنة، كما شهد ايضا صورا بطولية لأفراد وجماعات وشعوب في مختلف مناطق العالم، ممن سعوا الى الانعتاق من العبودية والتعسف والاضطهاد والتمييز، بسبب اللون او العرق او المعتقد او الوضع الاجتماعي، وسجلوا بذلك صفحات مضيئة في النزوع البشري نحو الحرية والمساواة، وقدموا تضحيات كبرى، سجنا او إبعادا او تعذيبا او قتلا او صلبا او تجويعا، دفاعا عن الكلمة الحرة والحق في الحياة الكريمة، فأصبحوا معها رموزا للمقاومة والثبات على المبادئ، وقناديل اضاءت لشعوبهم، وللبشرية جمعاء، دروب الاستقلال وصون الكرامة والحرية. لقد شهد التاريخ "صعود" امم وامبراطوريات وقوى استعمارية الى ذرى القوة والهيمنة والسيطرة والتوسع، لكن سطوتها لم تدم لأن القوة وحدها لم تكف لإدامة القهر الانساني والتمييز والاستخفاف بإرادة الشعوب وتوقها للانعتاق من القهر، فكان افولها محتّما، بالرغم من بقاء شواهد وامثلة عديدة ترينا يوميا ان هناك من لم يتعلم الدرس بعد فيلجأ الى اساليب القرون الوسطى في الحكم والتعسف والسيطرة والاحتلال في القرن الحادي والعشرين. ثانيا: شهدت النزاعات البشرية - وذلك بسبب التطور التكنولوجي اساسا - مستويات في التدمير والقتل والانتقام لم يكن من السهل تصورها قبل حدوثها، فكان القرن العشرون فصلا داميا من التاريخ بامتياز، من حيث الدمار الشامل والفتك بمقاييس لا تمتّ للانسانية بصلة، فقد ارتكبت في النصف الاول منه اكثر المغامرات البشرية همجية وجنونا في حربين عالميتين لقي فيهما ملايين البشر حتفهم، قتلا او جوعا او حرقا او مرضا او تهجيرا، واستخدمت القنبلة الذرية ضد المدن المكتظة بالسكان فأحرقت كل شيء حي، وبانت للمرة الاولى قدرة البشرية على افناء نفسها في لحظات من الجنون والتطرف، ومنذ ذلك الحين ولا يزال خطر افناء الشعوب، بل الحضارة البشرية برمتها، قائما وممثلا في اتساع الترسانات النووية والقدرات التدميرية للاسلحة الجديدة، والتي اصبحت تستخدم عن بعد دون ان يلمس مستخدموها نتائج افعالهم بشكل مباشر. ثالثا: قد يكون من المفيد التذكير هنا، في اطار تطور الوعي بمخاطر امتهان حقوق الانسان وارتكاب جرائم الحرب، بأن الزعيم البريطاني الاشهر ونستون تشرشل، وحسب ماجاء على لسان نعوم تشومسكي في واحد من كتبه، قد دافع علنيا في خطبة له امام مجلس العموم في بلاده عن استخدام السلاح الكيمياوي ضد العشائر العراقية التي انتفضت ضد الاحتلال البريطاني آنذاك، ما يدلل على ان الوعي العام - ومن ضمنه الوعي لدى بعض قادة العالم من طراز ونستون تشرشل - كان بدائيا، بقدر تعلق الامر باستخدام اسلحة الدمار الشامل الفتاكة، وتجاهلهم للقدرات التدميرية لها، والسباق المفتوح من اجل امتلاكها واستخدامها دون رادع، وايقاعها لأكبر قدر من الضحايا بأقل وقت ممكن، ما يسهم في حسم الصراع اللاانساني اصلا، دون الاكتراث لنوع الضحايا ان كانوا جندا مقاتلين او عزّلا مدنيين من الاطفال والنساء. وقد خطت البشرية خطوات كبيرة الى الامام على طريق تعزيز مفاهيم حقوق الانسان، وتجريم انتهاكها ومحاكمة مرتكبيها، وتطوير آليات ضمانها دوليا، وعقد الاتفاقيات الدولية الهادفة الى تغطيتها باعتبارها اساسا للعدل والحرية والسلام في العالم، وان الاستهانة بمبادئ حقوق الانسان لا يفضي الى استقرار النظام السياسي (عالميا كان او وطنيا)، بل الى المزيد من الانتهاكات والجرائم وعدم الاستقرار والمواجهات. رابعا: لقد افاقت الشعوب من "كبوتها" في الحرب العالمية الثانية، بعد ان حصدت الحرب حياة ملايين الناس، ودمرت المدن والحواضر وانتشر الفقر والجوع والفوضى والاوبئة وانتهكت حقوق الانسان بصورة شاملة، لم تألفها البشرية في احلك فترات التاريخ، فكان اطلاق الاعلان العالمي لحقوق الانسان في باريس في 10 كانون الاول سنة 1948 ايذانا بمرحلة مختلفة اصبح بها صون كرامة الانسان وحقوقه هدفا ساميا، فالاعلان له رمزيته الاخلاقية والسياسية في ادانة جرائم الابادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، فضلا عن رمزية اطلاقه من باريس التي تحررت توا من الاحتلال النازي، فهو أول وثيقة دولية الزمت الدول باحترام حقوق الانسان الاساسية، واصبح منذ تلك اللحظة علامة فارقة في التاريخ البشري، على الاقل على مستوى النوايا والالتزامات المعلنة، بالرغم من استمرار الفظاعات والانتهاكات بأشكال ودرجات مختلفة في العديد من دول العالم وحتى يومنا هذا. لكن الاعلان بحد ذاته مثّل خط شروع جديد للامم والدول في مدى احترامها لالتزاماتها الدولية امام العالم وامام شعوبها، ووجدت العديد من مواد الاعلان العالمي لحقوق الانسان طريقها الى دساتير الدول، واكتسبت ثقلا اخلاقيا وسياسيا يزداد مع الزمن باتساع دائرة المعرفة بالحقوق الاساسية للانسان والمساواة بين البشر وما شاكل ذلك. خامسا: ان الدساتير والتشريعات والقوانين التي توجب احترام حقوق الانسان هي ضرورة لا غنى عنها في المجتمعات الحديثة، وهي بالاضافة الى العرف القانوني غالبا ما تكون قد نتجت عن مخاضات اجتماعية وسياسية وسلسلة طويلة من التضحيات، الا انها بحد ذاتها لا تضمن صيانة تلك الحقوق بمجرد تشريعها او اصدارها، بل هي بحاجة الى آليات ضامنة لتطبيقها تتمثل اولا بأجهزة الدولة المسؤولة عن تطبيق القانون، ومن ثم منظومة ادارة الدولة بمجموعها وعلاقة اجهزتها المختلفة ببعضها، ولكنها لا تنتهي عند مسؤولية الدولة او السلطة فقط بل تتعداها الى المجتمع نفسه. ان السلطة وان كانت اكثر آليات القمع انتشارا إلا ان لها مفرداتها الامنية والمعنية بتطبيق القانون، وبالتالي فان عدم جديتها او حزمها في حماية حقوق الانسان يحولها الى سلطة فاسدة، فالسلطة ليست الوحيدة المسؤولة عن الضرب بحقوق الانسان عرض الحائط، بل يشترك معها المجتمع القائم على التمييز العرقي والديني والقمع والتعصب والاعراف المتخلفة والتقاليد البالية والطبقية، وحكم السلالات والعشائرية والتسلط، والغاء التنوع، واضطهاد النساء واستغلال الاطفال وسوء معاملة المعاقين وكبار السن وغير ذلك الكثير، ما يؤدي الى خلخلة تماسك المجتمع وانسجامه وحماية افراده، فيصبح ضعيفا ومنهكا وينتج، في غالب الاحيان، سلطة فاسدة وغاشمة تكون حقوق الانسان في مؤخرة اولوياتها ان كانت لديها ثمة اولويات.
د.حسن الجنابي
شبكة الأعلام العراقي
تعليقات الزوار سيتم حدف التعليقات التي تحتوي على كلمات غير لائقة Will delete comments that contain inappropriate words