من المسؤول عن ضياع هوية المدن العراقية وترييفها؟ السبب باختصار هو فشل مشروع الدولة في احداث التغيير الصحيح، في تمدين الريف، وهذا الفشل جاء كنتيجة لرغبة الكسب السياسي والاحتواء الايدلوجي، اللذين حولا المدن الى ارياف، ليعلو صوت الثقافة الرثة، وتنهزم العقلانية، لصالح خطاب ديني عاطفي منحط!
انهزمت المدينة بقيمها، امام طوفان بشري قليل المعرفة، سطحي الادراك، حسي التعامل، لتستباح، وتتشكل غيتوهات ارتكاسية، تعيش بكل حمولتها البسيطة، عالة على المدينة، تمسخ طباعها، وتحل بدلها قيم بدائية.
المعروف أن للمدينة وظائف عدة، ليس اقلها تهذيب الذات، والصهر الاجتماعي الذي يتيح حالة الانتقال بالفرد من ابسط اشكال الانتماء القرابي، العشائري، الى انتماءات اكثر حداثة، مصالحية، حزبية، فيكون الالتقاء البعيد عن الدم، اكثر فائدة، واكثر فعالية في تنشيط الحراك الاجتماعي، فيما يبقى الريف اسير الانتماءات القرابية؟
لستُ بصدد وصم الريف بالتخلف عموماً، بل أنني في طور تشخيص احد اسباب بقائه، اسير صراعات بدائية، ولعل في مقدمة هذه الاسباب هو غياب الاهتمام الكافي من الدولة التي من واجباتها وضع برامج التمدين، لا الترييف، لكن ما الذي حدث منذ سقوط الملكية عام 1958 والى يومنا؟
الكل حاول الاستفادة من الخزانات البشرية الهائلة الخام التي تقطن الارياف في لعبة الحشد، وتشكيل تكتلات داعمة له ولمشروعه، انهزم الصوت المدني، وانهزمت المدينة بثقافتها المترفعة، امام موج هائل، كان مادة سهلة للدكتاتوريات المتلاحقة في البلاد، لتشكل منه ما تشاء للسيطرة الشعبوية على السلطة، وهنا حدثت الكارثة. السلطات بدأت ومنذ عبدالكريم قاسم وما تلاه، في نقل الريف بكل حمولته الى المدينة، بكل ترفعها واشتراطاتها القاسية، السلطة تزواجت سفاحاً مع الريف، ليكونا ضداً بوجه الحراك المديني البرجوازي الذي يتكتل في احزاب تقدمية منفتحة.
اجهزت الحروب الطويلة والحصار الاقتصادي على ما تبقى من وجه المدن، وأتى التخريب الارعن للأهوار وتدمير الحياة الزراعية، وتراجع الخدمات التعليمية على كل ما حققتهُ الدولة في وقت سابق من تعليم وتمدين لتتحول المُدن الى أرياف كبيرة، تعيش تناقضاتها وصراعها.
ما حدث بعد 2003 ايضاً كان لهُ دور مدمر ايضاً، فمع صعود الطبقات الطفيلية والمليشاوية والمافيوية نتيجة لاحكامها السيطرة على المقدرات الاقتصاد في البلاد، باتت هذه القوى بحاجة اكبر الى مد نفوذها من خلال استقدام الجماعات والتكتلات للمدن للاقامة فيها، فحصل ان بدأت هجرات جماعية من الارياف باتجاه المدن لتشكل هذه الهجرات غيتوهات ضاغطة على ما تبقى من المدن، فكان ان استكملت حلقات الاجهاز على ما تبقى من المدن، ولتصاغ الهوية الجديدة للتكتلات البشرية وفق ما تشترطه شروط المقيمين الجدد لا وفق اشتراطات ما تقره قوانين الاقامة في المدن.