منذ عقود ونحن نحيا في هذا المثل.. نعيشهُ ونحسُّ عمقَ معناه ونعاني ما نعانيهِ من كوارثَ وويلاتٍ وحروب وموت يومي متهافت، ونحن نحمد الله الذي لا يُحمدُ على مكروه سواه.. فلسان حالنا يردّدُ المثل القائل “إلّي يشوف الموت يرضى بالسخونة”!.. منذ عقود ونحن نعاني من “السخونة” ونحن سعداء، فهي خيارنا الأفضل بدل أن نموت.. وقد نعلو بأوجاعنا قليلا فنحاول أن نفلسفها.. ونستعير أبيات محمود درويش حين كتب: “مازلتُ حياً.. ألف شكر للمصادفةِ السعيدة!”.. أما عبارة “الحرب هي السلام”.. التي ردّدها “جورج اُوريل” على لسان بطَلهِ في رواية “1984”.. فهي شعار مرحلة دامت معنا عقودا وأظنها ستدوم.. فمادام ثمة حرب.. سنبقى نفكر بثنائية الموت والحياة.. ونبقى نشكر الله على نعمه لأننا مازلنا أحياء.. فتغدو طموحاتنا صغيرة وأحلامنا متواضعة.. فلا نطالب بحقوق ولا نثور على دكتاتورية أو قهر أو استبداد.. تُستلب إنسانيتنا ونحن راضون قانعون.. ويصبح همّنا الأوحد الأهم هو البقاء على قيد الحياة.. فأي سلام!..
إن هو إلا سلام بطعم الحمى!
نسينا جيلا بعد جيل معنى أن يحيا المرءُ حياة طبيعية.. عادية.. لا تتعدى همومها أن تكون مادية أو اجتماعية أو عاطفية.. منذ عقود ونحن نحلم بأن نعاني ولو قليلا من المشاكل البسيطة التافهة والهموم اليومية الصغيرة.. لكن مشاكلنا أبتْ أن تقلَّ يوما عن مستوى كونها كوارث ونكبات وأزمات دولية وقضايا موت وحياة..
أما من استطاع منّا الانفلات من بلاد الهلاك.. ووصل بأمان إلى بلاد الغرب الآمن.. وشكر الله لأنه أنقذهُ من الموت وكتب له عمرا جديدا.. فإن أعراض الحمى تبقى تلازمهُ في الحِلِّ والترحال.. ويكون من الصعب عليه جدا أن يسلخ جلدته وينسى ماضيه الدامي..
نبقى نحاول الانخراط ولو بالتدريج في استيعاب معنى الحياة الإنسانية الطبيعية.. الخالية من القلق الموقوت مثل قنبلة.. والوجع المزمن من أخبار الوطن المنكوب.. نبقى، ونحن بعيدون عن ذلك الوجع، نموت قلقا على أتفه الأُمور.. نجفل حين نسمع طرقة باب.. صوت الألعاب النارية الاحتفالية يرعبنا فهو يذكرنا بأصوات الإنفجارات.. صوت الإسعاف يحيلنا إلى زعيق صافرة الإنذار التي تنبؤنا بغارة جوية مميتة.. وتبقى كل شبابيك العالم مشروع هشيم وجراح وموت قادم!
حدّث ولا حرج عن غضبنا السريع وانفعالاتنا المزمنة.. وإحساسنا الدائم بالظلم والقهر والضياع.. أصبحنا في الداخل والخارج عبارة عن مرضى مزمنين ولو بدرجات.. مسكونون بالماضي وبالوطن فكرة ومعنى.. قلقون من الحاضر مرعوبون من الآتي.. حياتنا تبدأ وتنتهي بقضايا مصيرية كبرى ترفلُ بشعارات مثل: “معارك الشرف والكرامة”.. دون أن نعي بأي معنى لإنسانية أو كرامة!.. لا نملك أن نستمتع بالحياة بلا حسرات.. تحاصرنا نظريات المؤامرة أينما ولينا وجوهنا.. ويملؤنا التحدي دائما لإثبات جدارتنا وتفرّدنا وكأننا وُلدنا لنكون محاربين!
الحمى في دمنا.. وهي خيارنا الوحيد دون الموت.. وحين يكون داخلنا أعرجا لن نحتمل أن يدوس على قدمنا أحد ولو دون قصد.. حين نكون مجروحين ولو منذ سنين.. لن نحتمل أن يلمسَ جرحنا أحد دون أن ننزف ونتهمه بالتعمّد والعدوان.. وحين نكون محمومين.. سنموت بردا ونرتجف إذا لامَسَتْ دواخلَنا برودة ُ واسترخاءُ الآخرين.. !!
فإلى متى سنرضى بالحمى؟ ألم يكن الموتُ أهون؟ كم أعشقُ قول المتنبي: “ما لجرح بميت إيلامُ!”
ريم قيس كبّة
تعليقات الزوار سيتم حدف التعليقات التي تحتوي على كلمات غير لائقة Will delete comments that contain inappropriate words