لماذا تدخلت واشنطن سريعا ضد «داعش» في العراق وتخلفت عن ذلك في سوريا؟
بعد التحرك المفاجئ لتنظيم «الدولة الإسلامية» المعروف إعلامياً بـ»داعش»، في العراق، وسيطرته السريعة وغير المتوقعة على أجزاء ومناطق واسعة شمالي وغربي البلاد، واقتراب مقاتليه من بغداد وأربيل (عاصمة إقليم شمال العراق)، تحركت واشنطن بلا إبطاء.
التحرك الأمريكي السريع ضد «الدولة الإسلامية» شمل إرسال البوارج الحربية إلى الخليج العربي، وإرسال خبراء عسكريين على جناح السرعة إلى بغداد وأربيل، كما شرع الطيران الحربي الأمريكي بشن ضربات ضد مواقع للتنظيم شمالي العراق، وكذلك الضغط السياسي الذي أدى إلى استصدار قرار أممي قبل أيام بمحاصرة «داعش» اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
ويتساءل الكثيرون عن السبب وراء هذا التحرك السريع والحاسم للولايات المتحدة ضد «الدولة الإسلامية» بعد سيطرته على بعض المناطق في العراق وارتكابه فيها ما يمكن تسميته «جرائم ضد الإنسانية»، بحسب ما يتهم به، وكذلك تهجير الآلاف من سكانها، بينما لم تحرك ساكنا عندما استولى التنظيم نفسه منذ أكثر من عام على مناطق واسعة في سوريا، وارتكب نفس الأعمال التي يمكن إدراجها تحت نفس التصنيف.
ويرى كثيرون هذا التساؤل مشروعا لشدة التناقض بين الحالين، ولكنه أمر يمكن تفسيره من خلال معرفة محركات سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إذ ان هذه السياسة لها محركان ودافعان أساسيان يتحكمان بها وهما: النفط، وأمن إسرائيل، أما الأمور الأخرى، ان وجدت، فهي ثانوية، ولا تأثير يذكر لها على القرارات السياسية، إلا إذا كانت تتماشى مع هذين المحركين الأساسيين.
ففي الواقع سوريا ليست من الدول النفطية الكبرى ولا تهم واشنطن إطلاقا في هذا المجال، وربما في مجالات أخرى كثيرة، ما عدا كونها الجار الأكثر تهديداً لأمن إسرائيل.
وأصبح من الثابت انه لإسرائيل مصلحة قوية في بقاء نظام بشار الأسد في الحكم في سوريا، بسبب الأمن الذي استمرت إسرائيل تتمتع به على جبهتها الشمالية خلال فترة حكم بشار (منذ عام 2000 وحتى اليوم) تماما كما تمتعت به أيام أبيه الراحل حافظ الأسد الذي حكم البلاد منذ عام 1971، وحتى وفاته عام 2000 حيث خلفه نجله بشار.
من جهة أخرى، فقد بينت الأحداث منذ دخول «الدولة الإسلامية» إلى سوريا قبل أكثر من عام ان عناصرها لم يدخلوا مواجهات حقيقية مع قوات نظام بشار إلا في حالات قليلة، و في الوقت نفسه لم تقم قوات بشار وتوابعها من الميليشيات الشيعية بمواجهة مسلحي الدولة الإسلامية إلا في حالات نادرة وغير مؤثرة.
ويمكن تفسير هذا الأمر ان وجود «الدولة» في سوريا وسيطرتها على مناطق واسعة يخدم هدف النظام في تخويف الغرب من البديل المحتمل لنظامه وهو الإرهاب والتطرف من فصائل إسلامية متشدده كالقاعدة و»الدولة الإسلامية» المنشقة عنها وغيرهما.
وقام نظام بشار والنظام الإيراني بالكثير من الأعمال التي ساعدت على ظهور وتقوية «القاعدة» بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 قبل ان ينشق عنه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» العام الماضي، لعدة أسباب منها استنزاف الأمريكيين ومنع استمرار الإدارة الأمريكية حينها فيما كانت تخطط له وهو تغيير نظام بشار الأسد بعد نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
ومن بين ما قام به نظام الأسد المدعوم من إيران هو تمرير السماح لـ»داعش» بالسيطرة على بعض المناطق لأشهر وعدم قصفها من قبل قوات النظام السوري، مثل محافظة الرقة المعقل الأساسي للتنظيم في سوريا.
وكما يرى مراقبون فقد نجح نظام بشار وإيران في مساعيهما، واستمرا في استغلال الفصائل والتنظيمات التي كانت تقاوم الغزو الأمريكي ومساعدتها بشكل أو بآخر.
وجاءت الاستفادة الكبرى من تلك التنظيمات بعد قيام الثورة في سوريا ضد نظام الأسد مارس/آذار 2011، والتي بدأت واستمرت سلمية لأكثر من 7 أشهر حتى أجبر قمع قوات النظام واستخدامه العنف ضد المتظاهرين على حمل السلاح للدفاع عن انفسهم وعائلاتهم وممتلكاتهم، قبل ان تتدخل التنظيمات الإسلامية مثل «داعش» والنصرة» وغيرها وتتصدر مشهد الصراع.
ومن المعروف ان مراسيم العفو التي أصدرها بشار الأسد في الأشهر الأولى للاحتجاجات ضده، سمحت لمعظم الموقوفين في السجون السورية من الجهاديين والإسلاميين بالخروج وتشكيل فصائل مقاتلة والمساهمة في عسكرة الثورة، مما أعطى للنظام المبرر لاستخدام أقصى درجات العنف والقمع لانهاء الاحتجاجات ضده.
ومنذ آذار/مارس 2011، تطالب المعارضة السورية بانهاء أكثر من 40 عاماً من حكم عائلة الأسد، وإقامة دولة ديمقراطية، يتم فيها تداول السلطة، لكن النظام السوري اعتمد الخيار العسكري لوقف الاحتجاجات، ما دفع سوريا إلى معارك دموية بين القوات النظامية، وقوات المعارضة، حصدت أرواح أكثر من (150) ألف شخص، بحسب المنظمات الحقوقية.
ويبدو ان الأثر السلبي لسيطرة «الدولة الإسلامية» على مناطق واسعة في سوريا هو أمر يمكن لإسرائيل والإدارة الأمريكية تحمله مقابل بقاء نظام بشار، وعدم قيام نظام آخر بديل لابد وان يكون لـلإسلاميين دور فيه، لانه من غير المتوقع ان يستمر السلام والأمن الذي نعمت به إسرائيل على حدودها الشمالية لأكثر من 40 عاما خلال حكم الأسدين (الأب والابن)، في حال سقوط نظام بشار.
ومهما كانت هذه الحسابات خاطئة، ومهما كانت النتائج الجانبية سيئة – وربما أسوأ من نتائج سقوط بشار الأسد- لكن على ما يبدو فان هذا ما قررته إسرائيل والإدارة الأمريكية، ولهذا تصمت الأخيرة عما يجري في سوريا سواء من تنظيم «الدولة الإسلامية» أو من نظام الأسد الذي ارتكب مجازر تفوق ما يتهم به التنظيم بارتكابها.
وقد يتساءل البعض عن المبادئ الأمريكية في الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكانها وتأثيرها على متخذي القرار في واشنطن في الشان السوري، خاصة وان حكومات الولايات المتحدة تستخدمها كسيف مسلط على رقاب الحكومات التي لاترضى عنها وتخالف مصالحها.
ولكن الواقع يقول ان القرارات السياسية الأمريكية لا مكان فيها لحسابات حقوق الإنسان ولا للديمقراطية، بل وحتى الخطوط الحمراء المتعلقة باستعمال الأسلحة الكيميائية والأخرى المحرمة دوليا والتي رسمها الرئيس الأمريكي باراك أوباما لبشار ونظامه، فحتى هذه الخطوط تم التخلي عنها بمجرد الحصول على تنازل من نظام بشار عن الأسلحة الكيميائية بعد ما سمي «مجزرة الكيماوي» في منطقة الغوطة آب/اغسطس 2011.
وبعد تهديد الولايات المتحدة بشن عملية عسكرية ضد النظام السوري على خلفية اتهامه بارتكاب «مجزرة الكيماوي» بريف دمشق التي راح ضحيتها نحو 1400 قتيل، في أغسطس / آب 2013 قرّر النظام السوري تلبيةً لدعوة من موسكو، تسليم ما بحوزته من أسلحة كيميائية بغية إتلافها.
وبدأت عمليات نقل تلك الأسلحة عبر ميناء اللاذقية على البحر المتوسط مطلع العام الجاري، وتم الانتهاء قبل أيام من نقل وإتلاف كامل الكمية المصرح بها من قبل النظام السوري المقدرة بحوالي 1300 طن.
وربما كان السبب الأكبر وراء تراجع واشنطن عن شن الضربة العسكرية ضد النظام هو إدراك الإدارة الأمريكية انه مهما كانت الضربة التي كانت متوقعة صغيرة أو محدودة، فانها كانت ستؤدي إلى انهيار نظام بشار بأكمله، فلذلك تم التراجع عنها، وكانت نتيجة ذلك التراجع والتراجع عن الخطوط الحمراء هي استمرار نظام بشار بقتل وتهجير الشعب السوري حتى تجاوزت مأساة هذا الشعب أكبر مآسي هذا القرن.
ومع ان جرائم النظام السوري تجاوزت بآلاف المرات حجم الجرائم التي قامت بها «الدولة الإسلامية» سواء في سوريا أو في العراق، وان التهجير الذي تسبب به نظام بشار للشعب السوري تجاوز بمئات المرات التهجير الذي سببه التنظيم في العراق للسكان المحليين هناك، إلا ان رد الفعل الأمريكي وربما الغربي لم يتجاوز حدود الإدانات اللفظية وتقديم بعض المساعدات الإنسانية التي لا تسمن ولا تغني عن جوع أو تحل الأزمة التي ما تزال مفتوحة.
بل وأكثر من ذلك لازالت الولايات المتحدة تفرض حظرا قويا على امدادات السلاح للثوار السوريين وتشل قدرتهم على مواجهة قوات نظام بشار، مما تسبب في إضعاف قوات المعارضة «المعتدلة» وتسبب بانضمام الكثير من الثوار السوريين إلى صفوف «الدولة الإسلامية» وجبهة «النصرة» لانهما الفصيلان الأكثر استقلالا عن الدعم الخارجي المتحكم به أمريكيا بشكل مباشر أو غير مباشر.
هذه السياسة والحسابات التي توصف بـ»الخاطئة» للإدارة الأمريكية سوف تؤدي إلى مالا يحمد عقباه، وقد يكون أحد الأسباب الأخرى لهذه السياسة هو إصرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما على عدم الدخول في حروب جديدة في الشرق الأوسط بعد الحرب على العراق.
لكن الهروب من المشكلة لا يحلها، وسواء رغبت حكومة الولايات المتحدة أم لم ترغب فهي مسؤولة بشكل أساسي عن عودة الأمن والاستقرار إلى المنطقة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة والقادرة على التأثير الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبرها من أهم مناطق العالم لمصالحها الاقتصادية والسياسية.
خاصة وان المطلوب ليس تدخلا عسكريا امريكيا مباشرا كما يظن بعض معارضي التدخل الامريكي في الشأن السوري، بل هو فقط رفع الحظر عن الأسلحة للثوار السوريين وربما بعض المساعدات اللوجستية والاستخباراتية وبعض الأسلحة النوعية التي تمكن الثوار من مواجهة النظام وأسلحته الكثيرة التي يزوده بها حلفاؤه الايرانيون والروس وغيرهم، أو على الأقل تحقيق التوازن معه.
أما الحجة التي يتذرع بها البعض بانه ليس من المستحسن إرسال أسلحة اخرى إلى المنطقة فهي مخالفة للواقع والمنطق، فالأسلحة تتدفق على نظام الأسد من حلفائه بازدياد، ووقف هذا التدفق لا يكون إلا بتسليح الطرف الآخر بما يمكنه من الوقوف في وجه هذا النظام.
ان عدم مواجهة ما يحدث في سوريا وعدم المساهمة في حل مشكلة تمترس نظام بشار الأسد ومن ورائه ايران وغيرها يؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على العراق وغيره من دول المنطقة، إذ ان بقاء نظام بشار الأسد هو أكبر مسبب لعدم الاستقرار وانفلات الأمن والسلم في الإقليم ويتسبب بإشعال النيران في أكثر من بلد فيه، وهو ما هدد به الأسد المنطقة في حال زواله بعدة تصريحات له مؤخراً.
وما يحدث الان من انضمام شعبي متزايد في العراق وسوريا لصفوف «الدولة الإسلامية» ولجبهة «النصرة» لن يكون من السهل الانتهاء من نتائجه السلبية على المنطقة وعلى العالم، خاصة بانضمام صفوف الكثيرين من الأجانب إلى هاتين المنظمتين واحتمال عودتهم المستقبلية إلى دولهم بعد اكتسابهم أفكاراً جهادية وخبرات قتالية، وما يمكن ان يفعله هؤلاء من أعمال قد تهدد استقرار وأمن تلك الدول.
القدس العربي
تعليقات الزوار سيتم حدف التعليقات التي تحتوي على كلمات غير لائقة Will delete comments that contain inappropriate words